ثقافة وفن

نديم محمد شاعر الكبرياء والألم … أيها المشفقون لا تلمسوا الجرح بصدري فتوقظوا كبريائي

| سارة سلامة

نديم محمد من أشهر شعراء سورية في القرن العشرين، من حيث غنى مادته الشعرية وغزارة إنتاجه، مع أنه كان شاعراً كثير الخيبات في حياته المديدة، التي نظم فيها شعراً ما يزيد على السبعين عاماً، وفي إطار تسليطها الضوء على الأعلام والمبدعين صدر عن وزارة الثقافة، والهيئة السورية للكتاب، وذلك تحت شعاراً (أعلام ومبدعون) كتاب يقدم سيرة حياة مبسطة لهذا الشاعر المبدع والاستثنائي، كتابة منذر يحيى عيسى.
أضاء نديم بشعره جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية، وارتقى بالغزل والرثاء والمديح. وقد آلمه إخفاق المشروع القومي، وبقي وفياً لشعبه ولوطنه ومبادئه.
ويبقى هذا الشاعر مجهولاً، لأكثر أبناء بلده، ولا سيّما الأجيال الشابة، ولّما يمض على رحيله إلاّ سنوات قليلة، قد يكون من أسبابها أنه زهد في الشهرة، وابتعد متعمداً عن الأضواء.

حياة الشاعر ولادته ونشأته الأولى
ضيعتي قصة الينابيع والطير وهمس للنسمات
ضيعتي لوحةٌ من الفجر والليل وناي الأعراس والرقصات
هذه هي «عين شقاق» قرية الشاعر كما صورها، وهي بقعة تحيط بها أشجار متنوعة الثمر، وتقع في نهاية السهل شرقيّ مدينة «جبلة»، باثني عشر كيلو متراً، وكانت ولادته فيها، عام 1909م، وذلك حسب ما صرّح به في أعماله الكاملة.
تعليمه الأول كان عند «شيخ الكتّاب»، وكان متفوقاً على أقرانه، والأول في قراءة القرآن الكريم. وقد نطق بالشعر في سن التاسعة كما ذكر عنه.
وفي عام 1926م، أرسله والده إلى مدرسة «اللاييك» العلمانية في بيروت، ثم سافر إلى فرنسا في العام 1927م، وهناك حصل على الشهادة الثانوية منها، ودرس الأدب الفرنسي في جامعة «مونبيلييه»، وحصل على الإجازة في الآداب الفرنسية.
وانتقل إلى سويسرا في العام 1930م لدراسة الحقوق، لكنه عاد إلى سورية في العام 1930م، مرغماً بطلب من السلطات السويسرية، وذلك بعد تلقيها إنذاراً من القنصل الفرنسي في سويسرا. وكتب بحسرة وألم بعد عودته إلى الوطن مقطوعة بعنوان «ألم»:
ألمٌ حنوت عليه، أسلمه يدي وأحلّه عيني، وأنهله دمي
فيطوف صدري باعثاً من دفئه
نعمى، ينم على نضارتها فمي

مواقفه القومية
ثورة العراق، تأمين قناة السويس، العدوان الثلاثي على مصر، كلها أحداث لم يكن الشاعر بعيداً عنها، ودائماً كان يؤكد تفاعله مع ما يجري، وفي هذه القصيدة نجد تفاعله مع الثورة المصرية:
الأباة الأحرار لا تورق الآفاق
إلا على يديهم نصولا
أنت لا تقطف الشموس بعينيك
ولكن بالعزم تشفي الغليلا
حطم العرش، إن رأيت على العرش
إلهاً، مسفّهاً مرذولا
وفي العام 1958م، قامت الوحدة بين سورية ومصر ولأنه العروبي الأصيل، لم يفته التغني بهذه الوحدة ويسجل اعتزازه بها وبقائدها جمال عبد الناصر، وكانت قصيدته بعنوان «علمي» قاصداً بها علم الوحدة:
طار في الأفق جناحا وتخطاه رواحا
علمي سكران بالزهـ ـو غبوقاً واصطباحا

الحياة والوظيفة
في عام 1933م، عيّن كاتباً لمحكمة صلح مختلطة في اللاذقية، ثم يستقيل بعد فترة ليعيّن أميناً لسرّ المحافظ «إحسان الجابري»، ثمّ أقيل، وعاد إلى حياة الشعر في قريته وعاد إلى الوظيفة من جديد مراقباً في مؤسسة الإعاشة «الميرة»، التي كانت على أيام الانتداب الفرنسي وعمل بتلك الفترة في منطقة صافيتا، وعانى خلال عمله من عدم المواساة في التعامل والتمييز بين الموظفين ومن ثم استقال من الوظيفة قائلاً:
غسلت يدي من الإثم العظيم
وأنقذت الضمير من الجحيم
نجوت من القيود وطرت حراً
أنفّض جانحيّ على النجوم

بداية مرضه وفقره
في العام 1948م بدأت أعراض مرض السل بالظهور ممهدة له للدخول في عالم المرض وآلامه، وفي 1949، دخل مصح «بحنّس» في لبنان لإصابته بهذا المرض المتطور سرطانياً كما زعم الأطباء، كتب خلالها قصيدة بعنوان «شاعر وصومعة» تصور حالته وهو يقاوم المرض بالشعر:
فراشةٌ حائمةٌ، وشمعةٌ حزينةٌ، وموقدٌ مرمّد
ومضجعٌ تنبح فيه سعلةٌ مديدةٌ يقطعها التنهد
وزوجةٌ ضئيلةٌ، وهرّةٌ صغيرةٌ في حضنها ترتعد
ذاق الشاعر مرارة الفقر بعد الغنى، وهو من أسرةٍ غنية، ربما لأنه تنازل عن أملاكه وهجر قريته، وذلك بعد بلوغه الأربعين من العمر، يقول:
ذبح الفقر أحرفي وجلا غيمي
وشبَّ الحريق في أندائي
صورة البؤس جمرةٌ بين جفني
ونصلٌ يعض في أحشائي
السكن في طرطوس

وتابع عيشه في مدينة طرطوس، بعيداً عن أهله وأقاربه، وكان سكنه في غرفةٍ متواضعةٍ على سطح بيت، محملاً بالكثير من الخيبات والانكسارات، والفشل في الحب، وقد تقدم به العمر، ومستقبله أصبح خلف ظهره، وقلّ زواره لخوفهم من العدوى بمرضه ونفورهم من مواقفه السياسية، مع خوفهم على مصالحهم. حيث قال:
وكنت في طرطوس لا منزلي
رحبٌ، ولا خد فراشي وثير
صومعتي من كل أطرافها
ثوب-على قدي- عتيق صغير
تشد من عزمي وتجلو صدا
همي، ولا تبرم.. زوج صبور

الإحالة على التقاعد
يلحظ المتتبع لمسيرة حياة الشاعر أن شعره المكتوب بعد العام 1988م، حتى وفاته، نادر وغير معروف له من الشعر سوى قصيدة قالها في العام 1993 وأهداها للسيد الرئيس حافظ الأسد:
حين ضلّ الناس أبواب الحياء
حين لم ينهد كريم لعطاء
حين زال النجم عن موضعه
واستباح الليل أطراف السماء
ذكر السيف أخاه رقة
ومضاءً في زمان الجبناء

وفاته
اليوم أدركني الملال والموت يصرخ بي تعال
أنا لم أعش ليقال مات ولم أكن ليقال زال
بهذا الشعور العدمي، والنظرة الفلسفية العميقة، للموت والحياة، يلخص الشاعر نديم محمد وجوده المادي، وإحساسه بالحياة، ورؤيته للموت، وقد تساوى لديه الوجود والعدم، حيث توفي بتاريخ 17/1/1994م، عن عمر ناهز ستةً وثمانين عاماً.
ومضى تاركاً حيرةً ، وكمّاً هائلاً من الأسئلة عند محبيه ومتابعي حياته وشعره، وكذلك عند الخصوم، وأغلبهم خصوم في السياسة، إذ ندر أن خاصمه أحدٌ فنياً وسيبقى نديم محمد مثار اهتمام لقراء العربية.

التراث المنشور
آلام: بأجزائه الثلاثة 1953م «فراشات وعناكب» أعيدت طباعته عام 1985م عن دار الحقائق بيروت، آفاق1985م، فرعون1960م، ألوان 1965م، الأعمال الشعرية الكاملة ويتضمن الدواوين: «من وحي الوحدة، وأشواك ناعمة، وزهور، وشتاء، وصرخة ثائر، وشاعر وصومعة، وصمت الرعود».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن