الأولى

فخ منبج لا يوصل إلى الرقة

| بيروت – محمد عبيد 

أوحت صورة آليات البحرية العسكرية الأميركية المتجهة إلى مدينة منبج أن مسار الأزمة في سورية قد بلغ ذروة التعقيد أو أنه رسم خطوط تماس بين قوى إقليمية ودولية ستقود إلى الانعطاف نحو الحل.
في الحالتين، أثارت هذه الصورة تساؤلات عدة حول مغزى وتوقيت الإعلان عن الوجود العسكري الأميركي على الأراضي السورية، وخصوصاً أن المعطيات السياسية كافة كانت تشير إلى اتباع إدارة ترامب الجديدة سياسة الانكفاء المؤقت بانتظار أن تتمكن بعد اكتمال عِقدِها من بلورة رؤية واضحة وآليات عمل فعالة لمقاربة الأزمة في سورية. لكن يبدو أن وقائع الميدان التي تغيرت بشكل مفاجىء نتيجة التبديل في مواقف وأولويات القوى الموجودة على الأرض استوجبت هذه الخطوة الأميركية.
فالاندفاع التركي خارج حدود التفاهم مع الجانب الروسي عبر السعي لتوسيع دائرة احتلال القوات التركية لأراضي سورية بما يتجاوز شريط الاطمئنان الحدودي والوصول إلى مدينة الباب، هذا الاندفاع فرض على المجموعات الكردية المسلحة الاصطفاف خلف الجيش العربي السوري وحلفائه بهدف منع تلك القوات من التمدد أكثر باتجاه منبج وريفها ما يضيق مساحة الحركة الكردية، كما يُعَرِض هذه الشريحة الكردية من الشعب السوري إلى حملة إبادة مؤكدة في حال تمكنت قوات أردوغان منها.
على المقلب الآخر، كان الجيش العربي السوري وحلفاؤه وبمساعدة روسية جوية يحققون تقدماً على أكثر من جبهة بدءاً من تحرير تدمر وصولاً إلى السخنة بموازاة اكتساح مدروس لأرياف حلب بالاتجاهات كافة مستغلين حالة من الضياع والتشتت برزت في أداء تنظيم «داعش» والفصائل الإرهابية المتحالفة معه، وبالتالي فإن هذا التقدم الذي لامس الحدود الإدارية لمحافظة الرقة أدى إلى تطويق المنافذ كافة المؤدية إليها ما أضعف إمكانية الاستثمار الأميركي المفترض عليها، كما ضَيّق المساحة الجغرافية التي لطالما اعتبرتها المؤسسة العسكرية والأمنية الأميركية مدىً حيوياً لمصالحها لا يمكن التفريط به.
على هذا الأساس، جاء التحرك الأميركي ليضع حداً لاحتمالين خطرين على مصالح واشنطن وهما:
الأول، حصول صدام عسكري بين المجموعات الكردية المسلحة من جهة وتركيا من جهة أخرى، الحليفين اللذين دأبت وزارة الدفاع والاستخبارات المركزية الأميركية على ضبط الإيقاع بينهما منذ بداية الأزمة في سورية والاستفادة من حركتهما بهدف إضعاف سلطة الدولة في مناطق المجموعات تمهيداً لتكريس شكل ما من اللامركزية السياسية التي تمنحها حكماً ذاتياً في دولة كونفدرالية مُقسمة، كذلك تشجيع الطرف التركي على توسعة شريط العزل في الداخل السوري باتجاه الحدود التركية ودفعه لتجاوز الوجود الكردي والتوجه نحو المشاركة في حصار الرقة.
والثاني، الخوف من أن يؤدي نجاح الجيش العربي السوري وحلفائه في السيطرة على مفاصل جغرافية أساسية على الحدود السورية-العراقية إلى تواصل مباشر بين الجيشين العراقي والسوري وكذلك مع قوات الحشد الشعبي التي تتحفز لمساندة الجيش العربي السوري في ملاحقة «داعش» داخل الأراضي السورية، هذا الأمر الذي سيسقط الخطة الأميركية القاضية باستدراج عروض للسماح للقوى الإقليمية والدولية المشاركة في معركة الرقة لإنهاء «داعش»، هذه المعركة التي من المفترض وفق السيناريو الأميركي أن تؤدي إلى تتويج واشنطن بطلاً هوليودياً، والأهم تمكينها من إقامة إدارة دولية لمحافظة الرقة تحت إمرتها، ما يعني أن القوات الأميركية ستنشئ قاعدة ثابتة في تلك المحافظة بموازاة قاعدة أخرى صارت شبه قائمة في منطقة القيادة على الجانب العراقي بحيث يصبح التواصل بين دمشق وبغداد محكوماً بالقرار الأميركي.
لاشك أن التسابق نحو منبج أدى إلى إحداث شرخ بين قوى المحور الأميركي كما أعاد تشكيل علاقات مصلحية- ظرفية حتى مع الخصوم والأعداء لكنها ليست سوى فخ لإلهاء المستعجلين لتسجيل نقاط تقدم، غير أن الضربة القاضية ستسجلها قبضة مَنْ يُمسِك بالممرات الإلزامية للوصول إلى الرقة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن