قضايا وآراء

ساعي بريد لا يخطئ العناوين

| عبد المنعم علي عيسى 

انتهت الجولة الثالثة من مفاوضات أستانا من دون حضور وفد المعارضة السورية، في الوقت الذي لا يزال منظمو ذلك المؤتمر أو الداعون له يصرّون على القول إن هذا الأخير هو فعل رديف ولا غنى عنه لمؤتمر جنيف أو هو في أضعف الإيمان يمثل «دفشة» للسيارة التي يتعثر مشيها.
كان المعلن عن غياب وفد المعارضة هو أن الغياب جاء رداً أو احتجاجاً على «انتهاكات الجيشين السوري والروسي» المتكررة لوقف إطلاق النار، على حين أن السبب الحقيقي- وغير المعلن- هو أن أنقرة ليست ببعيدة عن ذلك الفعل ولربما كان خير دليل على تغلغل أصابعها فيه هو أن أول فصيل رفض الحضور ثم تبعته باقي الجوقة كان «فرقة السلطان مراد» التي يغلب على مكّونها العنصر التركماني والمدارة من أنقرة بـ«ريمونت كونترول» تملك هي وحدها شيفرته، كان ذلك الغياب يعبّر عملياً عن خيبة أمل تركية تجاه الأداء الروسي الأخير خصوصاً في معركة منبج الإقليمية، والراجح أن أنقرة كانت تعوّل بدرجة كبيرة على دور روسي في منبج هو أقرب إلى موقفها ولربما كانت تلك الرسالة التي تحمل خيبة أمل تركية هي التي اضطرت الرئيس الروسي في اليوم التالي لانتهاء أستانا3 إلى امتداح الدور التركي قائلاً: «نثمن عالياً الدور التركي في التوصل إلى اتفاق وقف اطلاق النار في سورية 16/3/2017» ولذا فإن هذا الأداء التركي سوف يصبح لاحقاً نهجاً يتكرر في الكثير من المحطات فأنقرة أصلاً لم تذهب إلى أستانا أو جنيف إلا بحصار المطرقة الروسية والسندان الإيراني وما يدفعها نحو الاحتفاظ بلقب «ضامن ثان» للهدنة في سورية ليس التزامها بالتوافق مع الروس ولا انطلاقاً من مصالحها إنما يتأتى ذلك بفعل رؤيا متكونة لديها وهي تؤكد تهتك نسيج البنى العسكرية الحليفة لها أو تلك التي كانت تعوّل عليها، والحال هذه قد اختلف جذرياً ما بعد حلب 22/12/2016 أما عمليات ترميمها أو إعادة هيكلتها من جديد فهي بالتأكيد لا تملك حظوظاً وافية للرهان عليها انطلاقاً من المناخات الإقليمية والدولية التي توحي بأن «مولدات صناعتها» قد تخلت في مجملها عن الحل العسكري وباتت تدعم السير نحو ايجاد تسوية سياسية للأزمة السورية وعليه فإن النهج التركي يقوم- ولسوف يظل ذلك لاحقاً ما لم تتغير موازين القوى الإقليمية- على التعامل بطريقة وحيدة هي الدفع- والقبض- «كاش» الأمر الذي تبدى جلياً في مفاوضات أستانا 3 فالغياب كان رداً على الطريقة التي اتبعها الروس في منبج وهي أقرب ما تكون إلى طريقة «لاحق الدفع» في منبج.
المشكلة الحقيقية هي أن من الصعب استقراء كل ما وصلت إليه التفاهمات الروسية التركية وما يزيد الأمور صعوبة هو أن السياسات الروسية يشوبها الكثير من الغموض والروس نادراً ما يفصحون عن نياتهم، على حين أن الوضع على الضفة الأخرى (أي الأميركية- التركية) لربما كان أكثر وضوحاً والراجح أن واشنطن قد حسمت قرارها بإبعاد الأتراك عن أي دور يمكن أن يقوموا به في معارك الرقة وهو ما يمكن الاستدلال عليه عبر اللقاءات العديدة التي أجراها المبعوث الأميركي ماكفورك مع العديد من قيادات سورية الديمقراطية يوم 16 و17 آذار الجاري التي أعلن في أعقابها أن واشنطن سوف ترسل لهؤلاء المزيد من الأسلحة والمزيد من عناصر المارينز أيضاً ولذا لم يكن مفاجئاً الإعلان عن إرسال 1000 جندي أميركي لدعم حملة قوات سورية الديمقراطية «ضد داعش»، وفي المحسوس يمكن القول إن جولة أستانا الأخيرة كانت تتمحور بالدرجة الأولى حول مسائل تقنية عسكرية وما حققته من تقدم في هذا السياق كان يتمثل في تحديد مواقع داعش وفتح الشام (النصرة سابقاً) حيث كان التوافق على هذا الأمر فيما يخص هذي الأخيرة (النصرة) أمراً بالغ الصعوبة انطلاقاً من الحساسية التي يحملها هذا الملف على العكس من داعش، ومن الناحية السياسية أفضت هذه الجولة إلى ترسيخ الدور السياسي الإيراني من جديد كضامن أيضاً لوقف إطلاق النار في سورية بعد أن كان ذلك الدور قد تم تهميشه بدرجة كبيرة في أعقاب التقارب الروسي التركي الذي وصل ذراه في حلب 22/12/2016 والباب 2/3/2017 ومن شأن استعادة طهران لثقلها في التسوية السورية أن يعيد التوازن مرة أخرى إلى موازين القوى القائمة في سورية والمنطقة وبمعنى أصح إلى المعادلات القائمة فيهما، التي بدت تل أبيب مؤخراً عاملاً بارزاً فيها، فهذي الأخيرة تريد إرسال المزيد من الرسائل وصولاً إلى رسو معادلة جديدة في المنطقة تقول بعدم وصول أي سلاح إلى أيدي حزب الله خصوصاً إذا ما كان نوعياً في استعداد لمنازلة قريبة تبدو غيومها آخذة بالتشكل سريعاً إلا أن اللافت هو أن الغارة على تدمر كانت تمثل اختراقاً للعمق السوري على حين أن الاستهداف الأخير للطائرات الإسرائيلية 22/2/2017 لقافلة في جبال القطيفة السورية كان قد جرى من فوق أجواء بعلبك اللبنانية وهو ما كان يفهم منه بإمكان وجود تفاهم- ولو بالإيماء- مع الروس يقول بعدم انتهاك الطائرات الإسرائيلية للأجواء السورية ليزول هذا الفهم في تدمر، الأمر الذي استدعى الردّ السوري الذي تمثل باطلاق صواريخ اس آي 5 أو المعروفة بـ«اس اس 200» باتجاه الطائرات الإسرائيلية والرد هنا بغض النظر عن النتائج التي أفضى إليها هو رسالة سورية إلى تل أبيب تؤكد أن المعادلات التي تحاول هذه الأخيرة فرضها مستحيلة ودونها صعاب كبرى على الرغم من الجرح السوري الغائر.
كانت تداعيات تلك الغارة والرد السوري عليها قد برزت سريعاً في الداخل الإسرائيلي فتشغيل منظومة «حيتس» المضادة للصواريخ البالستية حتى وإن كانت هذه الأخيرة تقلع برادار إلكتروني إلا أن إيقافها يمكن أن يكون يدوياً وهو ما لم تفعله تل أبيب الأمر الذي يؤكد أن هذه الأخيرة كانت تتوقع استهداف مواقع لها في الداخل الإسرائيلي وذاك أمر وإن كان لم يحصل فإنه سوف يدخل في المرات القادمة في الحسابات الإسرائيلية تحت أي ظرف كان، فدمشق تريد القول إن ما تريد تل أبيب إرساءه هو أمر مستحيل أو لا يمكن القبول به والرسالة وصلت بالتأكيد عبر ساعي البريد البالستي الذي لا يخطئ العناوين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن