ثقافة وفن

العربية وظواهر المعرفة… بحث في المخيلة الجمعية والأداءات الفردية … د. صلاح الدين يونس: المسألة النقدية صلتها وشيجة بالدرس البلاغي والنقد والبلاغة

| سوسن صيداوي

من الإصدارات الحديثة لوزارة الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب، بحث قام به الدكتور صلاح الدين يونس، يحمل عنوان «العربية وظواهر المعرفة»، بواقع مئتين وثلاث وخمسين صفحة، متضمنا ثلاثة فصول. يُقدّم هذا الكتاب لقارئ من طبيعة ثقافية، تقوم على التواصل بين مشكلة التراث بأنساقه: اللغوية والبلاغية والنقدية والفكرية، وبين معضلة الحداثة. ولتحقيق التوازاي ما بين صراع التراث المحقق والحداثة، عمد المؤلف إلى منهج التحليل المقارن بين نصوص إبداعية، وأخرى نقدية قامت عليها عند القدماء، وبين نصوص من الإبداع والنقد الحديثين في غاية واضحة منه، أساسها الاحتكام إلى مسوغات النشوء وضرورات الارتقاء عند كل جيل من المبدعين والنقاد.

غاية البحث
حاول مؤلف الكتاب د. صلاح الدين يونس في هذا العمل، استقصاء المقولات التي أنتجها القراء ومن بعدهم البيانيون والمناطقة وأهل المعاني وأرباب الشعائر اللغوية، ثم استتبعها هذا بمواصلة النقاد للبلاغيين سواء التقيا أم افترقا، كما استرشد بآراء من واصلت منهجيته العصور حتى غدت كأنها تولد من بين أصلاب التراث ومن بين الترائب الحديثة، وفي إثر ما تقدم حاول أن تكون قراءته-على قراءاتهم- تقر بمسألتين جوهريتين هما كما تحدث «إن الاجتماع على الثوابت لا ينبغي حصوله إلا بعد الإقرار بـ«التغاير» مبدأ يحكم صيرورة التاريخ وصيرورة الفن، والثاني هو أن أنسنة السياقات الأدبية وما شاكلها وما خالفها في قروننا الهجرية الأولى جعلت من المناطقة والفلاسفة والبيانيين واللغويين ينتجون تشاركات مع الأمم العريقة، كالفرس واليونان والرومان، من خلال إخصاب الخيال الشرقي، «العربي الإسلامي» بالأنسنة الجامعة للتقاربات والتغايرات والفرائد والمشتركات بين الآداب القومية، ومن هنا وجد شعرنا الوجداني والصوفي والسياسي في القرون الهجرية الأولى مدخله إلى القرون الميلادية الأخيرة».

قراءة الإبداع والإبداع في القراءة
تحدث المؤلف في مقدمة كتابه عن القراءة التي اعتمدها بأنها ليست منتظمة في البنية التاريخية التي ينسحر بها القارئ المعاصر، وذلك انطلاقا من موقعين شرح عنهما قائلا: «الأول هو قربها من النظم الإسلامية في التدوين والامتثال والالتحاق بالنصوص القدسية الأولى، أو على أنها من معطياتها أو بمنزلة الشروح من المتون، والثاني يتعلق بمضمون القراءة، ونعني أننا لم نقرأ تلك المرحلة القرون الخمسة كنظم داخلية تقتصر على اللغة وشؤونها، بل تقدم بنا الوهم- وإن شئت بالمطاف- نحو الحدود الانثروبولوجية، بعد أن تخلصنا- كما نزعم- من السلطتين: الثيولوجية والسوسيولوجية، وكان الاستقصاء المزعوم محتاجاً إلى فضل تأمل، لأن المسألة النقدية ذات صلة وشيجة بالدرس البلاغي، وأما النقد والبلاغة فما كان لهما أن ينموا متسارعين، لولا ارتباط الدرس اللغوي بالدرس الديني، والبلاغة إنما نشأت لتمكين المسلم من علوم الدين، والتمكين محوج هو الآخر إلى تعزيز من خارج حدوده، وهكذا قادنا» التحقيب «لخصوصيات اللغة وارتباطاتها بعلوم الدين والدنيا إلى رصد المفارقات والتقاربات بين تفكيرنا البلاغي ومصادر الخارج الفلسفية من الجهة الأولى، ومن الجهة المقابلة قاربنا بين أصالة الدرس اللغوي وروافده من خارج العقل الشرقي».
كما سعى د. يونس عند تأمله للنصوص البلاغية والنقديه، إلى إيجاد مخرج لإشكالية الواحدية والتنوع في المتون العربية الأولى، وذلك من خلال الإقرار بالعناصر المكونة الأصيلة والأخرى الوافدة الرافدة لدى المتراكمات في اللغة والبلاغة والنقد.

أنطولوجيا اللغة
في البحث تم طرح موضوعة «أنطولوجيا اللغة»، ومن وجهة نظر المؤلف، انطلاقا من موقع دراسة اللغة البشرية كما لو أنها كائن إنساني يتم التساؤل من خلاله عن كيفية تحديد «ما الموجود؟و ما الكائن؟» ليلتزم السؤال في «الماورائيات» في سعي لإدراك الأشياء ومفردات المعرفة في ذاتها من خلال المظاهر الخارجية.
وحول هذه الموضوعة تكلم الباحث في مؤلفه «الأنطولوجيا من أرسطو 322 ق. م إلى ديكارت 1650 علم مشغول بالماورائيات، وفي هذه الحقبة من أرسطو إلى الفارابي سنة 950م كانت الغاية منها- عربيا- أو في الفلسفة العربية الإسلامية الوصول إلى أسس المعرفة، فالشعر عند العرب جوهر أنطولوجي كينوني منذ التكون اللغوي في إثر التكون الإثنوغرافي، وهنا حاولنا فك الارتباط بين النزوع المثالي المتعالي والإبداعات العربية، لتنتظم في التاريخ الثقافي البشري على قاعدة المكتسب والواهب.
كما أوضح بأنه عند قراءتنا لطبيعة الشعر ولعلاقة الطبيعة بالوظيفة سنرى كيف يتغاير الشعر عن النثر «حاولنا تقصي آراء النقاد واللغويين والفلاسفة المسلمين لوظيفة الشعر المنبثقة من طبيعته، والمغايرة للأجناس الأخرى كالخطابة، وبما أن للشعر خصوصية تبلغ حدود السلطانية فقد ظل متعاليا على النثر، مفارقا له في الهدف والبنية، إلا أن سيرورة التفلسف العربي قد مضت عبر النثر وأن شعراء القرنين الثالث والرابع قد تفلسف معظمهم، ما أدى إلى انكسار الفارق بين القطبين:الشعر والنثر، وهنا رأينا في الانكسار المذكور زعزعة لمركزية الشعر وإحالته إلى أحد مكونات الأمة وليس ديوانها الوحيد».
في البلاغيات والأسلوبيات

وفي العلاقة الواصلة الفاصلة بين البلاغة والأسلوبيات المعاصرة، كان المؤلف على يقين أن ظروف النشأة مختلفة تماما «فالبلاغة العربية إنما نشأت تحت شروط التقدم في الدرسين: الفقهي واللغوي، لكنها سرعان ما غادرت مسوغي النشوء، لتلتحق بالعلوم الوافدة استقبالا وعطاء، أما الأسلوبيات فقد نشأت من فيض الدرس التجريبي الغربي وتواصلاته مع الدرس اللغوي ولاسيما الفيلولوجية، وأما ما هو واصل- بدرجة التشابه النسبي-بين الدرس النقدي وشقيقه البلاغي من جهة وبين المناهج الأسلوبية الغربية من الجهة المقابلة، فما هو إلا من قبيل إسقاط الحاضر على الماضي.

ختام الكلمة
أما الكلمة الأخيرة في مقدمة د. صلاح الدين يونس في بحثه، أفصح خلالها عن رغبته في الكشف عن النخبة التراثية وعن دورها في التحول النوعي من الالتزام في البنية العامة ذات العمق الديني وذات الكثافة السايكولوجية العالية، إلى صنع الفضاءات الجديدة مع البنى الفلسفية والدرس اليوناني دون الانعتاق من البنية الأم. مشيراً إلى أن بحثه هو محاولة فردية تخضع للشروط التي أنتجتها، وتقر بشرعية الاختلاف على أسس منهجية منعتقة من الأفهام المحنطة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن