ثقافة وفن

الدنيا هي الغاية فهل…؟

| إسماعيل مروة 

لست أدري السبب الذي يجعل أغلب وعّاظنا في منطقتنا العربية يركزون على الحياة الدنيا والآخرة، ويضعون دوماً الدنيا مقابل الآخرة! ويقدمون قراءات يكفّرون هذا وذاك، أو يحكمون بإيمانه اعتماداً على فهم أقل ما يقال عنه: إنه فهم خاطئ للدنيا والآخرة، ويمكن أن يفهم على أنه قراءة خاطئة في فلسفة الوجود، وأعلى ما يمكن الوصول إليه هو أن هؤلاء ليسوا مؤمنين بالإله! فهل من عبث وجدت الدنيا؟ وهل جاء بنا لنمارس طقوساً ونرحل؟ وهل إعمار الدنيا فقط فيما يشير إليه السادة رجال الدين؟
مفهوم العبادة في الأساس ليس واضحاً لديهم، ومفهوم الإعمار ليس مفهوماً في أذهانهم، كل ما يقومون به هو قراءة نص، وعزله عن محيطه وأسبابه، ولو قارنا أي نص بمحيطه فإننا سنجد فهماً مختلفاً، فالدنيا مهمة جداً، بل من الأهمية بمكان، وحتى أولئك الذين يرددون قصة الخلق كما هو متعارف عليها لو أمعنوا النظر فسيجدون أن الدنيا أهم من الآخرة، لذلك جاء بآدم إليها، لأنه أرحب وميدان عمل، ولو لم تكن الدنيا بهذه الأهمية، فما الداعي لما حصل من قابيل وهابيل، ومن نوح الذي صنع الفلك بأعين الله؟ لو لم تكن الدنيا مهمة ألم يكن ممكناً أن يأخذه إليه إلى جنته بدل أن يمضي عمراً في صنع الفلك؟ لو لم تكن الدنيا غاية في القيمة فلم نتحدث عن زوج نوح وابنه؟ ما قيمة الطوفان؟
سيأتي أحدهم دوماً ليقول: إن هذه القصص لنتعلم منها، ولنعرف كيف نعبد الله! لنسلّم بصحة هذا الكلام، مع أن النص يقول: كن فيكون، والله لا يحتاج إلى تمثيل لنتعلم منه، بإمكانه أن يلهمنا وحسب!
وأسلّم معهم بأن الآخرة أهم من الدنيا، فإن كانت كذلك، فلِمَ ترتكز في كل شيء إلى الدنيا، فالثواب والعقاب نتيجة عمل الحياة الدنيا، ونتيجة تعبك، فالآخرة نتيجة للدنيا وليست أعلى إلا بصفة الخلود الموصوفة!
لِمَ، كما جاء في النصوص، يغفر الله كل شيء إلا ظلم الناس، وحقوق الناس؟ كل ما في الآخرة لا يساوي حقاً من حقوق الناس، سواء كان ذلك بالمال أم بالدم أو أي حق من الحقوق! وفوق ذلك الذي لا يعمل لآخرته يدعو: أرجعني أعمل صالحاً، فالصلاح والفساد في الدنيا، وهي الأهم، وهي المكشوفة للإنسان!
وما أجمل قول بعضهم الذي يرى أن الجنة أن تحب الآخر، ولا تعتدي عليه، ولا تغتصب حقه، وأن النار أن تكره، وأن تعتدي على الآخر، وهذا القول لا ينفي مفهوم الآخرة، ومفهوم الثواب والعقاب، وإنما يرتكز إلى قضية غاية في الأهمية أن تعيش جنة الحياة بما حولك استعداداً لجنة أخرى.
الدنيا يحبها خالقها، ولو لم يحبها لما جعلها ممتدة هكذا!
والدنيا مستمرة على المدى، ولا نهاية مرئية لها، فكم من عالم وكاهن ومتنبئ وفلكي حدد نهاية الدنيا، وغادرها وهي مستمرة؟ وضعوا نهايات عديدة للحياة الدنيا، وبأن الكون سيفنى سنة كذا وسنة كذا، ولم يحصل ذلك، وأغلب من وضع هذه النهايات رحل من دون أن يعطي مسوغاً، وحتى من وضع مقالته «نهاية التاريخ» فلسفها، نهاية عصر من عصوره، نهاية حرب باردة، واستعار حربٍ مع الخصم الأكبر الإسلام! واعتمد كل المنظرين على مفهوم الآخرة في تجييش الناس والعامة، فإن كانت الدنيا غير مهمة والآخرة هي الأهم فلِمَ الاقتتال على الدنيا؟ لِمَ سفك الدم؟ لِمَ الدمار والتدمير؟ لِمَ الاختلاف في الشرائع والمذاهب؟ ألم نقرأ لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة؟ إذاً لم يشأ لأن الحياة مهمة، ولأن الحياة غنية، ولأن الحياة تستحق أن تعاش. إذا كانت الدنيا غير مهمة، وكل الناس يعملون بإلهام الله وتوفيقه، فلِمَ وجد العلم؟ كيف تطور العلم؟ كيف وصل العلم إلى ما وصل إليه؟ أليس من الأجدى أن يبقى الناس على حصر وفي صوامع ليؤدوا عبادتهم الحرفية التي فهمها من فهمها بهذا الشكل السلبي؟!
أليس من الممكن أن يكون الدعاء للفجر للنهوض مبكراً واستقبال الحياة مع انبلاج الضوء، وليكون كل إنسان عاملاً نشيطاً مع تأدية طقوس العبادة المطلوبة لمن أراد؟
ألم نسمع بأنه لا خير فيمن جلس للعبادة وترك العمل؟ هذا نص لا لبس فيه، وعلمونا إياه في المراحل الدراسية، فإذا كانت العبادة ليست أفضل من العمل، والعمل للدنيا، فالدنيا مهمة وإعمارها مهم، وبناؤها مهم، وحبها واجب، لأن من تخلى عن الدنيا حقيقة وزهد بها لن يقدم شيئاً، وسيدخل ويخرج مع الدراويش الذين لا يتركون بصمة!
لماذا يصرّ علماؤنا على تقزيم الدنيا؟
وهل هي قزمة كما يصورونها بأعينهم؟
الطريف والغريب والمؤلم أن أحدهم يحدثك عن الحب، وعن ضرورة الصلح وإفشاء السلام، وهو ألدّ خصم لإخوته وأهله والمحيطين به، فلا يحب أحداً ولا يحبه أحد، وهو الذي يحيك المؤامرات لمن هم في مرتبته من علم، فهو الذي يستغيب، وهو الذي يتآمر على الأنداد والآخرين، وهو المتكالب على الظهور ويأبى أن يكون نجم أحدهم أعلى من نجمه! فإن كان هذا يرى الآخرة أهم فلماذا يقاتل في الدنيا؟ وإن كانت الدنيا والنجومية والظهور على المنابر والشاشات بهذه القيمة فلِمَ لا يعترف بأن الدنيا مهمة جداً وتستحق أن يحبها الإنسان، ولكن أن يحبها بحب؟!
ما رأيت عالماً- وهذا حكم مطلق- وفي الشرائع المتعددة إلا وله مطاعن على الآخرين، لم أجلس إلى عالم لا يهبش بالآخرين، هذا ينتقد عالماً، وذاك ينتقد مذهباً، وثالث ينتقد طريقة حياة، ومن أراد فليعد إلى الكتب ليصل إلى هذه الملاحظات بذاته فهي معيبة، ومن العيب أن نشير إليها أو نتداولها!
والحديث هنا مخصوص بعلماء الدين، ولا أميز هنا بين إسلامي بتعدد المذاهب أو مسيحي بتعدد الطوائف، وأغلبهم لو قرأ فسيعرف أنه المراد، وأنني سمعت منه مثل هذا الذي أقول، وأنا هنا لا أعترض على أن ينتقد أحدهم الآخر، أو حتى ينتقصه، ولكن الاعتراض ناجم عن أن هذا يتعارض مع مفهوم الآخرة، فإن كان عالم الدين يرى هذه الرؤية الملتوية فما بالنا بالناس العاديين؟!
يقول أحدهم: الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضعة، وهو جزء من حديث، ويجلدنا بتفسير قد يدفعنا لأن نخرج ما في جيوبنا للتصدق به، لأنه من بقايا الدنيا، وقد يسبب لنا العذاب، وإذا ما تابعنا فسنجد هذا قد حاز أرضاً واسعة، وعقارات لا آخر لها، وأرصدة يصعب إحصاؤها!! وإذا تحدث عن الترف قرّع الناس جميعهم، ولكنه يستمتع بكل ما في الدنيا، فله أطايب الطعام، وله أفخر الشراب، وله أجمل النساء، وله السيارات الفارهة! وبعضهم عاطل عن العمل، فمن أين جاءت هذه المنن؟ هل أرسلها الله له؟ جلّ الله، وبمفهوم المتدينين عن هذا الفعل وهذا التخصيص.
الدنيا جميلة ومهمة وغاية بذاتها حتى من المنظور الديني، وحين نراها بهذه الأهمية فإننا سنعيشها كما يجب، ونحافظ على الآخر، ونعتني بأي خلاف سياسي، وبأي صراع لأنه مهم، ولا نترك شيئاً للآخرة والحساب، فلنحاسِبْ أنفسنا قبل أن نُحاسب، وإن فعلنا كانت الحياة العظيمة الرائعة!
لا تنهنا أيها السيد عن شيء تتمسك به بتلابيبك، ولا تستغل الانسياق وراء المفهوم الديني، الذي يقبل النقاش، لكنك أنت جعلت نفسك مقدساً وأخرجت القطار عن السكة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن