ثقافة وفن

من وحي الهجرة..

| د. اسكندر لوقا 

ليست ظاهرة الهجرة، هجرة الشباب خصوصاً وبعض الأسر، ظاهرة غريبة على بلدنا، وإن تعددت أسبابها. بالأمس البعيد نسبياً، أيضاً كانت أسبابها متعددة. ففي زمن الاستعمار العثماني الذي امتد أربعة قرون (1516-1918) كان القهر والظلم وسوق الشباب مرغمين إلى الخدمة الإلزامية والحكم بالإعدام على الوطنيين من أبناء البلد، بين الأسباب التي دعت العديد من أهله إلى الهجرة بحثاً عن الأمن والأمان ولقمة العيش. كذلك كان شأن الاستعمار الفرنسي على مدى ربع قرن (1920-1946)، الاستعمار الذي وطئت أقدامه أرضنا على الرغم من الوعود التي خدّر بها الحلفاء العرب في زمن الحرب العالمية الأولى، فكان التنكيل بالوطنيين واغتيالهم ونفيهم شعار المرحلة التي دفعت بأسلافنا إلى الهجرة بحثاً عن الحرية قبل لقمة العيش في أحيان كثيرة.
ولم تكن أسباب ظاهرة الهجرات السابقة كما نلمسها اليوم متعددة الألوان. كان ثمة عدو واحد في مواجهة مصير أبناء البلد. كان ثمة الجندي العثماني كما الجندي الفرنسي. اليوم يصعب على المرء أن يعدد ألوان أعداء سورية، فهم من شتى أنحاء الأرض، وفي يقينهم أنهم، في سورية، مجاهدون حقيقيون ويقفون على مقربة من أبواب الجنة التي تنتظرهم، جزاء تلويث أيديهم بدماء الأبرياء من السوريين، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء.
وهذه الظاهرة، ظاهرة الهجرة التي نلمسها اليوم بين ظهرانينا، تذكرنا بطلائع المهاجرين في الأزمنة البعيدة نسبيا، كهجرة أول عربيين شقيقين من الـزخريا من بيت لحم إلى أميركا الجنوبية في سنة 1874، وقد تلاهما أول سوري هو نخلة جبارة آتياً من دمشق إلى الأرجنتين، ومن ثم لحقت به خمس عائلات فيما بعد، ثم عشرون مهاجراً في سنة 1883 وثلاث عشرة أسرة سورية في عام 1884 من الـمالك ومطر وظريف.
وهكذا بدأت الهجرة تتسع أبعادها، مع دخول سورية عباءة الاستعمارين العثماني والفرنسي، إلى حين الاستقلال، حيث لم يعد لظاهرة الهجرة ثقلها على كاهل الوطن كما كان في الماضي.
إن ما نلمسه اليوم من أسباب دفع الشباب والعائلات إلى الهجرة، يتخطى الأسباب التي دفعت بأسلافهم إلى الهجرة، تتخطاه بارتكاب جرائم لأول مرة ترتكب فوق أرضنا، وبأيد سوداء وبيضاء وصفراء، وبكل ألوان الحقد على سورية، البلد الذي كان مثالاً للأمن والأمان قبل ترويع أهله وتهديد حياتهم لا بتدمير أوابدهم فقط.
إن هجرة اليوم تختلف عن هجرة الأمس، لأن العدو الذي نواجهه لا علاقة له بمفهوم الإنسانية ومنطق الأخلاق، بل لا يمت للإنسانية بأدنى صلة، ومع ذلك مصيره إلى زوال.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن