ثقافة وفن

«وحوش ضارية» مونودراما الوجع.. جديد القومي في الحسكة

| الحسكة- دحام السلطان

انعكاسات الأزمة الراهنة التي أرخت بظلالها على البلاد، وما ورّثت تلك الانعكاسات من انتكاسات ثقيلة الظل أدت في النهاية إلى سحق الحالة الإنسانية الجميلة بمجمل مفرداتها النبيلة وبكل ما تحتويه النفس البشرية من دوافع وشذور الخير والقيم والجمال والأخلاق السامية، التي تعطّل دورها بشكل منقطع النظير لتتحوّل إلى نوازع للشر بفعل الأزمة وإرهاصاتها المتراكمة التي انحرفت بالبشر وحوّلتهم إلى وحوش ضارية ومفترسة وفي النهاية «أكلة للحوم البشر».!

هذا ما تناوله وسلط الضوء عليه، المسرح القومي في جديده السنوي من خلال عرضه المسرحي «وحوش ضارية» مونودراما الوجع، الذي استضافته خشبة مسرح المركز الثقافي العربي بالحسكة على مدار الأيام الأخيرة الماضية، وهو النص المأخوذ عن نص «أكلة لحوم البشر» للراحل ممدوح عدوان، الذي قام بإعداده وتجسيده وإخراجه الفنان عبد اللـه الزاهد، وقام بتصميم سينوغرافيا العرض والإشراف الفني، الفنان الكاتب والمخرج المسرحي إسماعيل خلف.
العرض قُدّم ضمن بقعة ضوئية لا تتجاوز مساحتها الجغرافية مساحة الـمترين بـمتر، حيث بدأ العرض بـ(فلم) سينمائي يتحدث عن أكلة لحوم البشر، وما رافقهم من سمات ومظاهر حياتية ومشاهد وميزات لا تمت إلى الإنسانية بصلة، كانت حاضرة بالفعل وبصورة مماثلة في الكثير من تقنيات وممارسات المجموعات الإرهابية المسلّحة في سورية، قبل البدء بحالة البوح لدى عماد الدين مدرّس مادة الفلسفة، باعتباره الشخص الذي تألّم من هذه المشاهد، معتقداً أن كل ما يجري خارج محيطه هو عالم وحشي يأكل فيه الناس بعضهم بعضاً، إلى أن ينتابه الاعتقاد أن أي فعل حياتي هو (آكل ومأكول).!
وخلال فترة العرض التي استمرت نحو 55 دقيقة، وجرّتنا كل تلك الدقائق لأن نعيش مع هذه الشخصية كل هذه التهويمات، فنتوه مع وبين سقفي ما الحقيقي؟ وما المتخيّل؟ كما أننا شعرنا إن العرض كان نخبوياً أحياناً، ويمس الجميع أحياناً أخرى.. فعبد اللـه الزاهد وكعادته كان صادقاً وشفافاً بكل جوارحه مع الخشبة، وإن كان متوقعاً أن يكون أكثر تألقاً وجاذبية من خلال رصيد سنوات معاشرته الطويلة للخشبة، وهذا بالفعل ما يبرر غيابه أيضاً لسنوات ليست بقصيرة عن الخشبة! إضافة إلى أن فرضية العرض التي رسمها المسرحي إسماعيل خلف وحصره للممثل في هذا الإطار الضيّق، كان يتطلّب إمكانات بدنية أكثر ليونة ورشاقة من غير المتوافرة لدى عبد اللـه الزاهد، بدليل أن الممثل يجسّد على قطعة الديكور عشرات التشكيلات، وفي كل لحظة نشعر أن هذه القطعة (تومي) بشيء جديد.! حيث يقول الزاهد (ضاحكاً): إن عمري تجاوز الخمسين، وكان ينبغي على الفنان خلف أن يراعي ذلك.!؟
وفي المحصلة فإن «وحوش ضارية» ليست مسألة شخصية بمفردها لتخص مدرّس الفلسفة عماد الدين- بل هي تخص الكثير من الحالات الإنسانية التي أتعبها وأرهقها هذا العالم بقسوته، على الرغم من أن عماد الدين ربما بدا شخصاً هشاً، لكنه بكل تأكيد هو أنموذج للكثيرين من الذين يشعرون بالوحشة والعزلة، نتيجة لعدم انتمائهم لهذا العالم…. لهذا فهو يصرخ «إذا سادت الشريعة الوحشية فكلكم مأكولون».
مدير المسرح القومي بالحسكة الفنان والمخرج المسرحي إسماعيل خلف قال: إن رجال المسرح القومي بالحسكة رفضوا أن يُسدل الستار على الحركة الإبداعية المسرحية في هذه المحافظة، التي تركت بصمات واضحة على المشهد المسرحي في سورية، مشيراً إلى تنوّع أعمال القومي في المحافظة ما بين أعمال الكبار والصغار والمونودراما، إضافة إلى الاحتفال السنوي بيوم المسرح العالمي، والأهم من ذلك كله مهرجان الحسكة المسرحي الذي قُدّمت منه أربع دورات وهو اليوم يستعد للدورة الخامسة.
وبيّن الخلف أن حالة الديمومة النوعية للحركة المسرحية في الحسكة، تأتي من حالة المتابعة والاهتمام الكبيرين من وزارة الثقافة ومديرية المسارح والموسيقا اللتين كان لهما الفضل الأكبر في هذه الاستمرارية، إضافة إلى حالة التفاني والإخلاص التي يتمتع بها عناصر المسرح القومي بالحسكة، الذين أثبتوا حضوراً وظهوراً متميّزاً خلال سنوات الأزمة.
أضاف الفنان عبد الغني السلطان قائلاً: استمتعت بالعرض وكانت مشاعري مع عبد اللـه الزاهد في كل لحظة ودقيقة، انطلاقاً من شعوري بحالة القلق التي انتابته قبل العرض، فنجح في الكثير من اللحظات… فأضحكنا وأبكانا… ومرت لحظات أخرى مرور الكرام كان ينبغي أن تكون أكثر صدقاً، وبالعموم استمتعنا بالعرض وشعرنا أنه سيكون إضافة جديدة لرصيد المسرح القومي بالحسكة.
من جهته بيّن مدير الثقافة بالحسكة محمد الفلاج أننا كنا أمام عرض جميل، جديد، ومختلف في كل شيء، وكنا نتألم مع الممثل الرئيس على الخشبة ونضحك معه وفي حقيقة الأمر، المسرح القومي بالحسكة يُقدّم لنا في كل فترة وجبة مسرحية تُغني الروح، وتُعيد الأمل لغدٍ أجمل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن