قضايا وآراء

«السلال المفضلة».. وتدمير النوّيات

| عبد المنعم علي عيسى

في المرحلة ما قبل أستانا بنسخه الثلاث كانت عوامل السيطرة الميدانية أو الخرائط العسكرية هي التي تحدد المكاسب السياسية، على حين أضحت السياسة ما بعد أستانا هي التي تحرك الجبهات لإعادة رسم تلك الخرائط، إذ لطالما كان إشعال الجبهات العديدة بوجه الجيش العربي السوري مطلباً سياسياً بالدرجة الأولى في محاولة لتلافي ثقل حقائق الميدان، أو للقول إن ما حققه الجيش من انتصارات مؤخراً هو غير كاف لفرض شروط الحكومة السورية على طاولة المفاوضات.
يمكن وضع الهجوم على دمشق الذي بلغ ذراه القصوى 22- 24/3 والهجوم على حماة في سياق تلاقي المطالب السياسية الإقليمية مع حالة احتياج ذاتي أو داخلي للنصرة التي ترى أن كل يوم يمر في ظل وقف إطلاق النار هو مقتل لها، ناهيك عن أن تراكم هذا المسار وصولاً إلى إيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية من شأنه أن يؤدي إلى حصارها كمقدمة لاقتلاعها من الجذور، ولذلك شهدنا مساندة جيش الإسلام الممول سعودياً وفيلق الرحمن الممول قطرياً للنصرة في دمشق ومساندة هيئة تحرير الشام لهذه الأخيرة في ريف حماة لربما يتضح البعد الإقليمي للحدث، إذا ما أدركنا أن حالة الاقتتال التي كانت تعيشها الفصائل المسلحة فيما بينها انطلاقاً من الخلاف حول المكاسب وحول النفوذ تلك الحالة كانت قد انتهت قبل ما يزيد على شهرين تمهيداً لإطلاق معركتي (يا عباد الله) في دمشق و(قل اعملوا) في حماة، لكن لا تكتمل الصورة إلا بجزئها الذي يقول إن تلك الفصائل وقياداتها كانت قبيل هجومها متيقنة تماماً أن سقوط دمشق هو أمر مستحيل، كان من الواضح أن العديدين يريدون الذهاب إلى جنيف 5 (23/3) وفي جعبتهم جمرات المشهد السوري لا رماده الذي تطول قائمة المتضررين منه ولربما كان فعل هؤلاء قد تبدى مبكراً منذ جولة أستانا2 (17/2/2017) عندما انشق العديد من الكتائب والفصائل عن قياداتها معلنين التحاقهم بجبهة النصرة، ومن ثم تكرّس هذا الواقع جلياً في أستانا3 (14/3/2017) بغياب وفد الفصائل المسلحة نهائياً عن المفاوضات، أما رتل المتضررين فهو يبدأ بالسعودية وقطر ماراً بتركيا وصولاً إلى إسرائيل التي تقرأ المشهد الإقليمي على أنه يمثل فرصة سانحة لفرض معادلات جديدة في المنطقة، أو بمعنى آخر سانحة لإدخال هذه الأخيرة برمتها (المنطقة) في العصر الإسرائيلي الذي كان مقدراً أن يبدأ منذ مطلع الثمانينيات قبل اغتيال بشير الجميل الذي كان يمثل خيار تل أبيب في لبنان، بينما التقديرات تقول إن تلك العملية – لو حدثت- فلسوف تمضي إلى أجل غير مسمى على اعتبار أن المقدمات تفضي دائماً إلى النتائج، وعليه فإن حال المنطقة الراهن ينبئ بحال مستقبلي أسوأ من هذا الأخير، إلا أن الحسابات الإسرائيلية إذا ما كانت – وهي على الأرجح كذلك- على هذه الحال فإن تل أبيب تكون قد ابتنت إستراتيجياتها على استقراء خاطئ يلغي عامل التاريخ وكذا عامل الجغرافيا، فالحرب على سورية تعني الحرب على مهد تاريخ البشر كما تعني الحرب على الجغرافيا الأولى التي وطئها الإنسان بقدمه، بينما تلاحم العاملين (التاريخ والجغرافيا) الواحد مع الآخر كان كفيلاً بإفشال ودحر جميع الهجمات التي تعرضت لها على شراستها وهو ما يتأكد حاضراً بثبات الهويتين القومية والدينية للشعوب التي تعيش فيها، ومن شأن هذا العامل الأخير فيما إذا تعرض الوجود للتهديد أن يؤدي- كما أدى- إلى ِإيقاظ شعور عارم يغوص عميقاً في الذات الجماعية السورية، وهو يشكل «جدار صين» حامياً للتاريخ وللجغرافيا ولحالة التلاحم فيما بينهما إذ لطالما هدفت جميع الغزوات التي تعرضت لها المنطقة إلى فصل التاريخ (البشر) عن الجغرافيا (الأرض) وهو من شأنه أن يؤدي إلى تيه الشعوب الساكنة فيها، أما فصل الجغرافيا عن التاريخ فهو كفيل بسقوطها لأنها سوف تخسر مناعتها ويسقط كبرى قلاعها وأشدها تحصيناً.
صحيح أن العديد من دول المنطقة يريد إدخالها في العصر الإسرائيلي وتحديداً من السعودية وقطر وخصوصاً بعدما وهنت شآبيب الرحمة الأميركية ولذا فلا بأس باستبدالها بنظيرة لها إسرائيلية، إلا أن تل أبيب هي التي تمانع الآن ولربما كان ذلك بفعل الخشية من أن يؤدي ذلك الأمر إلى لجوء رأس الحربة السوري إلى عمقها العراقي وهو ما كانت إسرائيل تتحسب له على مدى عقود ثمانية هي عمرها حتى الآن، فبن غوريون أوصى أحفاده بأن «الخطر كان يأتي دائماً من الشرق» ولا أدل على عمق ذلك الهاجس في الذات الإسرائيلية من فضيحة «إيران غيت» 1986 التي اضطرت فيها تل أبيب لتقديم العون إلى طهران التي كان أولى شعارات ثورتها العام 1979 هو تدمير الدولة الإسرائيلية في مواجهة الخزان العراقي الذي يمثل خطراً استثنائياً على المدى الطويل.
وإذا ما أردنا الخوض في الموقف الدولي تجاه هذه المآلات الإقليمية فإننا نرى أن موسكو لا تبدو معنية بتوسيع رحاها خارج الرقعة التركية لتشمل الخليج ما يجعل من مساعيها لإيجاد تسوية سياسية ناقصة ولا تؤدي جميع مراميها، أما واشنطن فينتابها في هذا السياق تياران الأول يريد التعاون مع موسكو للوصول إلى تسوية سياسية، أما الثاني فهو يريد الذهاب إلى مزيد من الحروب لتفجير المنطقة برمتها ولسوف يكون لحسم أحد التيارين المعركة لمصلحته دور كبير في المسار الذي يمكن أن تتخذه الأوضاع في المنطقة بما فيها أزمتها المركزية السورية.
وسط هذه التحولات المهمة انطلقت مفاوضات جنيف5 (23/3/2017) واللافت أن هناك العديد من يهلل لها ولربما كان ذلك بفعل سياسة «السلات المفضلة» التي اعتمدها ستيفان دي ميستورا على نحو ما أعلن 25/3 وهي تعني قيامه بمناقشة الملفات التي يرغب فيها كل طرف على حدة من دون أن تكون تلك الملفات بالضرورة تمثل رغبة أو أولوية لباقي الأطراف، وهذه السياسة لربما تمثل التجربة الأولى في أي مفاوضات قد سبقتها ولا سابقة لها وهي محكومة بالتأكيد بالفشل ولن تؤدي إلا إلى إضاعة الوقت أو التفاوض للتفاوض فقط، وقد تكون تلك السياسة ناجمة بالدرجة الأولى عن حال دي ميستورا الراهنة، فقد جاءت تقارير عدة 25/3 لتؤكد أن هذا الأخير سوف يتقدم باستقالته منتصف شهر نيسان المقبل ولذا فإنه يرى وجوب التعاطي مع الأطراف على مبدأ «يا رايح كتر ملايح»، إذ لا يعقل أن تنجح مفاوضات – أي مفاوضات- ما لم تمتلك برنامجاً واضحاً يحدد ترتيب الأولويات ويرسم خطاً زمنياً لها بغض النظر عن رغبة هذا الطرف أو ذاك في فرض ملف معين أو تقديمه على ملفات أخرى.
إن إصرار المعارضة السورية على طرح موضوع الانتقال السياسي كأولوية لا تسبقها أي أولوية أخرى على الرغم من عدم وجود مرجعية يرتكز إليها في القرار 2254 الذي يمثل الأرضية الأساس التي يتم التفاوض على أساسها، يمثل وصفة ناجحة جداً لتفكك وانحلال الدولة السورية فيما إذا ما كان هذا الأمر سابقاً لانتهاء الحرب على الأرض السورية وانتفاء وجود أي جيب مسلح فيها وهو ما يجب أن تدركه تلك المعارضة جيداً، وفي حال العكس فإن هذي الأخيرة تتحمل مسؤولية تاريخية أمام السوريين وأمام سورية لم يسبق لأحد من قبل أن حملها، وهي تحمل ما بين ثناياها مشروعاً لربما تكون هي رأس الحربة فيه وهو يهدف إلى تدمير النويات المتبقية في هيولى الخلايا السورية والتي يمكن لها أن تقلع مرة أخرى من جديد فور توافر الشروط المناسبة لكي تقوم بذاك الفعل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن