ثقافة وفن

قهوة الأجاويد رمز عربي يحمل دلالات كثيرة.. قهوة السيف وقهوة الضيف… مفتاح السلام والكلام بالمجالس ومفهومها يحل معضلات أو يعقّدها

| دمشق- منير كيال

القهوة التي تستسيغها ونتلذذ باحتسائها، ويُعدّ تقديمها للضيف بالمناسبات شكلاً من أشكال الترحيب والكرم.. لم يكن لها شأن بحياتنا، فقد وصلت هذه القهوة إلى بلاد الحجاز من اليمن التي اشتهرت بزراعة البن… ولما شاع احتساؤها بين الناس حاربها رجال الدين محاربة لا هوادة بها، بل إن بعضهم أفتى بتحريمها، واعتبرها خمرة منكرة، فصدر الأمر بزمن إمارة سعود بن إدريس أمير مكة سنة 1039 للهجرة بجلد بائعها وشاربها وطابخها فأخذ الناس يتعاطونها بأقبية بعض البيوت، فإذا داهمهم المكلّفون سحبوهم بالعنف إلى ساحة عامة وضربوا رؤوسهم بأوانيهم التي كانت من الفخار حتى تدميهم، وربما قضي عليهم من هول الضرب، كما أنهم قد يجلدون بالسياط.. وما لبثت هذه الحرب على متعاطي القهوة أن خمد وطيسها، وحصل التراخي بملاحقة محتسيها.. إلى أن أخذت هذه القهوة المكانة التي هي عليه بحياتنا بهذه الأيام.

أصول تقديمها
كان من شدة اهتمام العرب بالقهوة أن نحتوا من اسمها فعل: تقهوى، يتقهوى، تقهوياً. وهي دليل على كرم المعزب بالضيف، كما أنها وسيلة للتعبير عن الترحيب والانشراح به فضلاً عن الوجاهة. وقد تكون هذه القهوة من مستلزمات الأحزان.
لذلك كان لتقديم القهوة أصول، لكونها من شيم العرب، وهي مفتاح الكلام والسلام بالمجالس، وعندما يحتسي الضيف قهوة إنسان، يكون قد مالحه، فيصبح له من الحقوق ما يعجز عن الوصف، ومن أهم هذه الحقوق أن يصبح كل من المعزّب والضيف أميناً على الآخر، مهما كان شأن كل منهما من الآخر.
فالقهوة عند العرب كالرغيف. الذي يخشى المرء المشاطرة به مع الآخر إذا لم يكن يستحق الممالحة بذلك الرغيف، ولا تليق به حقوق المشاطرة لأنه ليس كفؤا لها.
فما إن يجلس الضيف، حتى يبادر المعزّب إلى إحضار القهوة، فيصب بفنجان بعض القهوة أمام ضيفه فيشرب ذلك، على سبيل التذوق وللدلالة على طيب القهوة ونقائها. ثم يصب المضيف فنجاناً ثانياً للضيف، ويتبعه بفنجان آخر وفنجان آخر إلا إذا اكتفى الضيف أو عندها على الضيف أن يرفع الفنجان بيده اليمنى ويهزه ثلاث مرات قائلاً: قهوة دائمة. فيرد عليه المضيف: صحتين وعافية. وبالطبع فإن المضيف لا يصب بالفنجان بكل مرة أكثر من رشفة واحدة لا تكاد تستر قعر الفنجان، وهذا ليس من قبيل البخل، وإنما يعدون ذلك من الإكرام، لأن إملاء الساقي (المضيف) للفنجان يُعتبر من قبيل الاحتقار لمن يقدم له الفنجان، ولا بد أن يبدأ الساقي للقهوة في تقديم القهوة للشخص الذي إلى يمينه ثم للشخص الذي يليه مهما كان شأن الحضور من مكانة أو أهمية، وهم يقولون في ذلك:
أعط من على يمينك، ولو كان أبو زيد الهلالي على يسارك.
وإذا تخطى الساقي أحدهم، فإن ذلك التخطي يُعتبر إهانة لا يمكن تجاوزها أوالصبر عليها، وإذا اكتفى الضيف بعد أن يصب له الساقي الفنجان، وجب على الساقي أن يشرب ذلك الفنجان، أو يريقه على الأرض، ولو كانت مفروشة بالسجاد. ولا يجوز إطلاقاً تقديم ذلك الفنجان لشخص آخر، لما يترتب على ذلك من إشكالات لا تحمد عقباها، لما في ذلك من معاني الامتهان والاستخفاف.

طرائق إعدادها
ولا بد بهذا المجال أن نتوقف بعض الشيء عند موضوع إعداد القهوة، أكان ذلك من حيث التحميص أو الطحن وحتى غلي (طبخ) هذه القهوة.
ذلك إن فنجان القهوة الذي يقدّم إلينا، لا بد أن يمر بمراحل قبل أن تتناوله يدنا، ونحتسيه هنيئاً مريئاً، وهذه المراحل تستغرق الساعات وأهمها:
التحميص والطحن ثم الطبخ (الغلي). فالتحميص يكون على نار هادئة.
فالمحماصة وهي عبارة عن إناء مرفوع الجوانب، له مسكة بجانبه بطول يقارب الذراع. فإذا وضع البن بالمحماصة على النار، يُشرع بتقليبه حتى لا يحترق فإذا أخذ البن حاجته من التحميص أي نضج، فإنهم ينشرونه (يفردونه) بالهواء الطلق، حتى يبرد، ومن ثم يعمد إلى دقه (طحنه) بالمهباج والمهباج تجويف من الخشب، وهو أشبه بالهاون النحاسي، لكن فتحة فمه من الأعلى أضيق من سعة قعره. ولهذا المهباج مدقة طولها نحو 70سم. وأجود أنواع المهباج ما كان من خشب البطم أو الخرنوب.
كما أن سطح المهباج الخارجي لا يخلو من الزخارف المنقوشة على شكل خطوط متلاقية مستقيمة أو متعرجة، وضفرة في محيط أعلى المهباج وأسفله.
وجميع الحفر موزع بتناسق وتناظر على شكل أقرب لما يعرف بالخيط العربي في مجال النقش أوالحفر بالزخارف الإسلامية. كما أن هذا المهباج لا يخلو عند فتحته من إطار معدني على شكل سوار يحيط بالمهباج لإكسابه المتانة والمقاومة، وذلك فضلاً عن مسامير نحاسية بيضاء فضية موزعة على سطح المهباج الخارجي.

المهباج آلتها
ويكون لطحن (دق) البن بالمهباج جرس موسيقي، يأنس إليه من يسمعه، ومنهم من يجعل هذا الوزن لتلك الدقّات على شكل إيقاع ألحان لأغان دارجة تجعل القاصي والداني يبادر إلى مكان صوت دق المهباج لتناول القهوة، حتى لكأن دق القهوة بالمهباج دعوة لتناول القهوة.
أما دلال القهوة (مصابها) فهي التي تطبخ بها القهوة، ومنها ما يقدم به القهوة. وهذه الدلال على أنواع، وقد يصل عددها عند من يقدم القهوة إلى ست دلال. وهم يطلقون على كل منها اسماً خاصاً بها. ومن ذلك الدلة الطباخة وهي الأكبر ومنهم من قد يطلق عليها اسم الأم أو العروسة ولا بد من القول إن الساقي يحب الدلال التي يتعامل معها، ومنهم من يعتبرها بمنزلة أولاده فهو يحافظ عليها ويتعهدها بالعناية والنظافة والتلميع والصقل على الدوام.
ويكون طبخ القهوة بالدلة الأم، ويستغرق ذلك ساعات. وهم يقولون في ذلك «طحن البن يكون جرشاً، وطبخها هرشاً». وهم يضيفون إلى القهوة لدى اقتراب نضجها ما يعرف باسم الهيل، أو حب الهال، ومنهم من يزيد على ذلك جوزة الطيب وكذلك الندّ لإكساب القهوة طعماً ونكهة مميزة.
صنع الدلال

فإذا كان ذلك، يعمدون إلى صب هذه القهوة من الدلة الطباخة أو الغلاية إلى دلة ثانية ثم إلى دلة ثالثة ورابعة، بقصد ترقيدها، فإذا تم ذلك، فإنهم يسكبونها بالمصب الذي يقدم به الساقي القهوة للضيفان.
ويقوم على صنع دلال القهوة أناس تمرسوا على ذلك، ومنهم من توارث هذه الحرفة، وكان لهؤلاء الصناع سوق خاصة بدمشق يتجمعون بها، ويقع هذا السوق بمحلة الدرويشية بدمشق. وقد امتدت محال صنع دلال القهوة بدمشق إلى ما يعرف بالسنانية. حتى قرب موقع الشيخ حسن.
ومن الأسر التي امتهنت صنع دلال القهوة بدمشق أسرة المعرّاوي المعروفة باسم الدالاتي، ومنهم إبراهيم وعادل وأولادهما. كما أن من هذه الأسر أسرة الصالحاني. فضلاً عن ذلك يمكن القول بوجود نماذج من دلال ومصاب القهوة بدمشق، وهي تحمل اسم الأسرة التي مارست العمل بهذا المجال ومن ذلك الدلال المعروفة باسم: الرسلاني والحمصي والبغدادي، وتتميز كل مجموعة من هذه الدلال بنقشها وتكفيتها بالذهب والفضة، كما تتميز بأشكالها وحجومها ولا تقل مصاب القهوة عن الدلال نقشا وتكفيتاً، ونجد منها ما كان عسراوياً وهو لاستعمال من يمسك به باليد اليسرى، ومن هذه الدلال ما كان يمينياً، لمن يستعمله باليد اليمنى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن