ثقافة وفن

الماضوية واقع وأخطار «3»

إسماعيل مروة : 

 

من طبيعة التخصص والعمل، وقفت في مرحلة مبكرة عند ظاهرة السلامة اللغوية، وبإشراف الأستاذ المجمعي مروان البواب تم إعداد (دليل الأخطاء الشائعة في الكتابة والنطق) وهذا الدليل على صغر حجمه إلا أنه استغرق سنوات من العمل الجاد والطويل، وخضع لمراجعات عديدة، وما أزال أذكر أنه تم اعتماد عدد من الكتب اللغوية في الأخطاء مثل كتب المغربي وأبي السعود ومختار عمر والعدناني في معجميه، وقد اجتمعت لدينا مادة كبيرة اعتمدها الأستاذ البواب، ثم ما لبث أن بدأ إعادة النظر فيها، وللحق فإنني لم أكن من التمكن بمكان يسمح لي أن أعطي رأياً واضحاً وقاطعاً، بينما كان الأستاذ البواب صاحب نظرة ثاقبة وثابتة، تقوم على عقد موازنات لا أدرك بعدها، ومن ثم قام بشرح المنهج لي، فهناك كثير من الأخطاء الشائعة التي اعتمدها أحد المصنفين لم يعتمدها سواه، وهناك أخطاء أعيد تصويبها من المؤلف نفسه، كما فعل العدناني في معجميه المتتابعين، وهناك أخطاء أجازها مجمع اللغة العربية في القاهرة ضمن لجانه، وصارت موجودة في المعجم الوسيط، وإن كنا لا نؤمن بقرارات المجامع، فلماذا وجدت؟! وأذكر في المخبر اللغوي ملاحظة لم تذهب من خاطري بعد ربع قرن، حين قال لي الأستاذ البواب، هذا الخطأ مسوّغه أنه لم يرد عن العرب، فهل هذا يكفي؟ وبطبيعة الحال فقد استبعد الأستاذ من الدليل عدداً لا يستهان به من الأخطاء الشائعة التي تمت تخطئتها لأنها لم ترد عن العرب بلفظها، وبسبب خبرته الرياضية العالية، كان يخضع الكلمة إلى أقيسة العرب، وبعد دراسة وتمحيص يقرر الإبقاء أو الاستبعاد، المهم أن هذه التجربة التي جاءت في مرحلة مبكرة بعد التخرج مباشرة تركت أثرها فيَّ، وجعلتني أنظر إلى اللغة نظرة مختلفة وأكثر واقعية، وأزعم أن عدداً من الكتب التي صدرت في الأخطاء الشائعة كانت من باب التزيّد والتمحّل، ولم تكن تهدف إلى تصويب اللغة، وتهدف هنا خطأ شائع جاء من الترجمة والإعلام، ومع ذلك استخدمها لأنها تؤدي الغاية، بل إن عدداً من الذين صنفوا في الأخطاء الشائعة التقيتهم، ووجدت بعضهم لا يذكر ما صنفه، وإنما صنفه لغايات وطلبات من مؤسسات أو دور نشر!!
ولك أن تستمع إلى أحدهم وهو يقوم بتخطئة الآخرين في الأخطاء الشائعة لتكتشف أن هذا الذي يصوّب يخطئ في أشياء أدهى وأصعب، بل ربما يخطئ في النحو والأساسيات، وهو في رحلة سعيه لتخطئة الآخرين في خطأ شائع مختلف فيه!!
ولا ينكر أحد أن لغتنا اليوم تدور في لغة ماضوية، وهي مع جلالتها وقداستها تحتاج منا إلى عمل جاد، ولو بذلت جهود تعادل ربع ما بذل في البحث عن الخطأ لخدمة اللغة، لكانت اللغة أكثر انسيابية ومعاصرة وقدرة على التعبير، فبعد نصف قرن من استخدام الهاتف والتلفون، وسعي الغيورين لاعتماد الهاتف والمهتفة، جاء مجمع اللغة العربية في القاهرة ليقول: ما خضع لأقيسة العرب يمكن استخدامه: تلفن، يتلفن، تلفنة، تلفز، يتلفز، تلفزة… ومع ذلك يأتي أحدهم ليضرب بكل هذه القرارات عرض الحائط، ويدور حول الاستخدام الأكثر فصاحة، وإن كان أكثر غرابة، وبعد عقود سيستقر الأمر على استخدام كلمة الكمبيوتر، ولكن الخلاف لن ينتهي حول الكلمة المناسبة، والتي لن يستخدمها أحد مهما بذل المجمعيون من جهود، فنحن نستثمر العلم، ولسنا شركاء فيه، وبعد أن يعمم لا يمكن أن نغير مصطلحه، وبالمناسبة أسأل هل وجد اللغويون وسط الدم والدمار والقتل مصطلحاً لـ«اللدات» التي لا يخلو منها بيت؟! حاز مخترعوها جائزة نوبل للفيزياء، وأظن أن هذه اللدات عندما تصبح وسيلة الإنارة البديلة، وربما أكثر من ذلك بكثير سيبدأ لغويون بالبحث عن مصطلح بديل يلائم العربية!
في جلسة مع الصديق الراحل المجمعي د. عبد السلام العجيلي، سألته عن هذه القضية، فقال لي: عندما يبذل اللغويون جهوداً طيبة في جمع كل جديد مما يجود به الشعر والنثر، ويقومون بضمه إلى المعجم تنتهي المشكلة، ولكنهم اكتفوا بما بين أيديهم، ويريدون قتل الموجود لإحياء الميت والمهجور من اللغة!
لم أدرك يومها أبعاد ما قاله العجيلي، ولكنني وصلت إلى سره عندما سمعت من لا يقيم جملة باللغة العربية السليمة يتحدث في الأخطاء الشائعة!
هو غير قادر على الفعل، لذلك يلجأ إلى تخطئة الناس!
لغتنا عظيمة ومقدسة وحافظت على ذاتها، والفضل للقرآن الكريم وعلومه النحوية والبلاغية، ولكن هل يخدم القرآن واللغة هذا الجمود؟ وهل يقدم لنا هذا الأسلوب القيم أي مولود سليم؟
جمع الأقدمون فهل جمعوا كل شيء؟
قالوا، ولكن هل كل ما قالوه من الصواب؟
أما إننا نصمم على (مكره أخاك لا بطل).
التصويب كلمة وحركة، والبحث عن التخريجات والبقاء في الماضي يحتاج مجلدات وأعماراً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن