قضايا وآراء

عن «التّحول الأميركي» و«الهروب التركي»: هل بدأت ملامح النصر السوري؟

| فرنسا – فراس عزيز ديب 

بعد أن كان الأعراب يَغطّون في سُباتهم العميق وهم يحلمونَ بعالم «بلا الأسد»، استيقظوا على تصريحات لم يعتادوا عليها، ففي الوقت الذي تخرج فيه صحيفة «هآرتس» الصهيونية، بمقال تؤكد فيه حتمية التحالف القادم بين مشيخات النفط و«إسرائيل»، لأن «حماس» ليست شريكاً حتى لو بدّلت ميثاقَها بضغط (قطري تركي)، وإعادة رسم الشرق المتهالك، يجب أن يمر عبر تدعيم العلاقات مع مشيخات النفط، وطريق «الرياض»، حسب تعبير الصحيفة، يمر من «رام اللـه»، يخرج وزير الخارجية الأميركي بتصريح يقول فيه: إن «مصير الأسد» بيد الشعب السوري.
كعادة التصريحات الأميركية فإنها غالباً ما تكون مثارَ جدل يصل إلى «عدم الثقة» بها، لكنها هذه المرة لم تترافق فقط مع سعي خليجي أَعرابي لتعويم فكرة التحالف مع الكيان الصهيوني فحسب، لكنها تزامنت مع مواضيع ثلاثة أكثر أهمية، فما هي؟
أولاً: هذا التصريح جاء بعد لقاء وزير الخارجية الأميركي ذات نفسه مع رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان، أي إن مباحثاته لم تكن محصورة فقط على مستوى وزارة الخارجية، بل جاءَت بعد مباحثات مباشرة مع أردوغان، لم تخل من نصيحة أميركية للأتراك بأن بلدهم سيواجه مصيراً صعباً.
في الأسبوع الماضي قلنا: إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أراد استخدام أردوغان وسيلة لمعاقبة الأنظمة الأوروبية المتهالكة، هذا الافتراض ربما يفسر لنا استيعابه لأردوغان بالفترة التي تلت اغتيال السفير الروسي في تركيا. يبدو أن فترة صلاحية أردوغان لهذه المهمة انتهت، القصة بسيطة، إذا أخذنا فرنسا مثالاً لما تمثله كثاني أقوى اقتصاد أوروبي، فإن أحد المرشحين الأوفر حظاً، فرانسوا فيون، متهم بتلقيه أموالاً من موسكو، أما صاحبة المركز الثاني، مارين لوبين، فهي ذهبت أبعدَ من ذلك بزيارتها موسكو ولقائها بوتين، ما عرضها للكثير من الانتقادات.
هذا الأمر يقودنا لبديهية أن الروس لا يبحثون عن الصدام مع الأوروبيين، بقدر ما يبحثون عن تنبيه القادمين لكراسي الحكم بأن أبواب موسكو مفتوحة لأي تعاون مستقبلي، وترك الروس أردوغان يواجه مصيرهُ وحيداً في صدامه مع الأوروبيين، لكن هذا الأمر يبدو أنه تطور ليكون صداماً مع الأميركيين أيضاً، فكيف ذلك؟
لم يكن أردوغان يتوقع يوماً وتحديداً مع الإدارة الأميركية الجديدة، أن الموازنة بينه وبين الأوروبيين عند الأميركيين لن تكون في مصلحته، تحديداً أن تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن الواقع الأوروبي كانت تصب في خانة ارتفاع أسهم أردوغان. لكن ما لم يخطر في باله أن تصريحات ترامب تكتيكية، هو لا يرفض الأوروبيين لكنه يرفض الاتحاد الأوروبي، هو ليس على عداوة مع دول «ناتو»، لكنه يرفض «ناتو»، والأهم هو ليس على عداء مع الإسلام، لكنه يرفض التطرف بما فيه استخدام الدين وسيلة للحكم، فإذا كان الأتراك ذات أنفسهم يعترفون أن الأوروبيين لم يقبلوهم، ولن يقبلوهم، بسبب الإسلام، فكيف له أن يصدق أن ترامب سيتعاطى معه كحليف؟
ثانياً: جاءَت هذه التصريحات بعد الإعلان المفاجئ لما يُسمى «مجلس الأمن القومي التركي»، انتهاء عمليات «درع الفرات» بعد أن حققت أهدافها.
بعيداً عن السؤال المنطقي: كيف لدولة تستخدم أو تدعم ميليشيا خارجة على القانون أن تعلن انتهاء العمليات العسكرية؟ لماذا لم تقم هذه الميليشيا ذات نفسها بالإعلان عن ذلك إذا كانت فعلياً ميليشيا كما تدّعي تسعى إلى تحرير بلدها من «الظلم والتطلع للحرية»؟ لكن هناك سؤال أكثر أهمية؛ هل حقق التركي أهدافهُ من خلال «درع الفرات»؟
ربما لو تسنى لمتزعم تنظيم داعش الإرهابي «أبو بكر البغدادي» إصدار بيان، لسخرَ من الأهداف التي حققها جيش الاحتلال التركي والميليشيا التي يدعمها. النظام التركي بحث منذ البداية عن «منطقة عازلة» تمتد من «جرابلس» وصولاً إلى «إعزاز»، وهذا الأمر لم يتحقق. كذلك الأمر بحثوا عن ما يسمونه ضرب المشروع الانفصالي للأكراد، أو حتى قيام إقليم ذي حكم ذاتي، لكن الهدف أخفق أيضاً لأن هذا المشروع مستمر وبقناعة أميركية، حتى الآن، على الأقل. ربما أن الشيء الوحيد الذي نجحَ فيه النظام التركي هو خلق مستعمرات «تركمانية» في الشمال السوري تحديداً بعد عمليات التطهير العرقي التي قامت بها ميليشياته. هذا الأمر يعطينا صورةً بأن أمر إنهاء العمليات وليس انتهاءَها، جاء على عجل دون تحقيق الطموح، حتى بيان الجيش التركي عن وجود قواته في بعض مناطق الشمال السوري سوّغه فقط بضمان عودة السوريين وفرض الأمن، أي يمكننا القول عملياً: إن الأتراك خرجوا من اللعبة، هذا إن لم يكونوا قد اقتربوا أكثر من أي وقت مضى من الخروج من الجغرافيا، فالقصة ليست فقط بتحذيرات الأميركيين من «المصير المجهول»، لكن ألا يمكننا القول اليوم: إن القوى العظمى بالمطلق باتت تدرك أن تركيا بوضعها الحالي سياسياً وأمنياً وديموغرافياً، باتت تشكلُ خطراً؟
النقطة الثالثة وهي الأهم؛ فإن هذا التصريح سبقهُ كلامٌ للمندوبة الأميركية في مجلس الأمن لا يحيد عن هذا السياق، وأتبعهُ تصريحٌ للناطق الرسمي في البيت الأبيض «شون سبايسر» بأن هناك واقعاً سياسياً في سورية يجعلنا نركز الآن على هزيمة «داعش». هذه التقاطعات في تصريحات مفاصل الإدارة الأميركية تجعلنا نقول إنها ترسم إلى حدّ بعيد ملامح السياسة الأميركية القادمة في سورية وهي في الإطار العام لا يبدو أنها تنحرف عن خطابات ترامب خلال حملته الانتخابية. لكن هل يمكن اعتبار هذه التصريحات مصدر ثقة بالتحول الأميركي على أرضية اقتران القول بالفعل، أم إنها مجرد طمأنات للروس وحلفائهم من جهة، وابتزازٌ متعدد الجوانب لحلفاء أميركا في المنطقة؟
من الواقعية بمكان أننا عندما لا نكترث بتصريحات الغربيين بمنحاها السلبي، فإننا لن نكترث لها بالمنحى الإيجابي، ولا يمكن القول إن تصريحاتهم لا تعنينا عندما كانوا يرددون «أيام الأسد» معدودة، ونأتي اليوم لنبني على تصريحات قالوها بالمنحى المغاير. لكن ومن باب الواقعية أيضاً، علينا أن نأخذ الظروف المحيطة بكلا المنحنين، فالإدارة الأميركية الحالية جديدة، وليست هي من انقلبت على مواقفها لكنها انقلبت على مواقف الإدارة السابقة، بل إن هذا الكلام لمَّح إليه المتحدث باسم البيت الأبيض عندما قال: إن إدارة (الرئيس الأميركي السابق باراك) أوباما هي من أضاعت فرصة التعامل مع الوضع في سورية. أي إن إدارة ترامب تحاول التملص من أي وعود أميركية سابقة، وربما أن كلامها ليس موجهاً فقط للخارج تحديداً أن هذا «الخارج» بدأ يتبع سيده الأميركي، ألم يبشرنا وزير الخارجية الفرنسي بأن الأولوية لم تعد لـ«إزاحة الأسد»؟ وهل يريدنا جان مارك إيرولت أن نصدق أنه عاد هو وإدارته التي لم يبق من «اشتراكيتها» حتى اسمها إلى رشده؟ بل إنها تصريحاتٌ قد تكون موجهةٌ للداخل الأميركي بمن فيهم «البنتاغون» الذي لا يبدو أنه سيتنازل عن طموحاته السورية بهذه السهولة، فماذا ينتظرنا؟
في الإطار العام لا يمكن أبداً إنكار أن التصريحات الأميركية هي فعلياً بداية لتحول ما له أسباب كثيرة، أهمها كما نعيد كل مرة أن الجميع اكتشف أن إدارة المنظمات الإرهابية لتحقيق الطموح في البلدان التي لا تسير في الركب الأميركي هو أمر خاطئ، نجح في عدة دول لكنهم اصطدموا بسورية بما لا يمكن توقعه من قوة، بما فيها قوة دعم الحلفاء. لكن علينا أن نعترف أن الأميركي لا ينهزم بسهولة بمعنى آخر؛ هناك ثمنٌ ما سيُدفع، لا يمكن حالياً التكهن بهذا الثمن، تحديداً أن ثوابت القيادة السورية واضحة؛ لا طعن في الظهر للحلفاء بما يحمي ويكفل استقلالية القرار السوري، ولن يكون هناك ما لا يوافق عليه السوريون جميعاً، وهذا الأمر يجعلنا نُسقط عدة أمور من الحسابات بمعنى آخر:
لا ابتعاد عن إيران، ولا قبول بأقاليم عرقية، لا تنازل عن الأراضي المحتلة، بما فيها خيار المقاومة حتى استعادة الحقوق، وكل ماعدا ذلك قابل للنقاش.
عندها سنذهب للاحتمال الأهم، هل بدأ الأميركي يرتّب أوراق الهزيمة في سورية؟ نستطيع القول نعم، لكن حتى بترتيب الأوراق سيكون هناك أثمانٌ ستُدفع على صيغة «البقاء للأقوى»، تحديداً أن «ترامب» لا يبدو في أي حال من الأحوال من الذين يحبون «الحليف الضعيف»، حتى لو اضطر لإعادة تدويره، فهل بدأنا نشهد فعلياً معالم ما يسمونهُ «انتصار الأسد»؟
الأدق أننا بدأنا نشهد معالم الانتصار السوري، وهذا الأمر سيكون مفتاحهُ اشتعال الجبهات كافة، فهل سيتعظ وقود هذه الحرب؟ لا يبدو ذلك فمن خُلق ليزحَف فلن يطير.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن