الصفحة الأخيرة

مهندسو الحرائق

| حسن م. يوسف 

عندما زرت أميركا للمرة الأولى والأخيرة قبل واحد وعشرين عاماً قلت للشخص الذي كان مكلفاً مرافقة وفدنا الصحفي القادم من اثني عشر بلداً عربياً: «إن أميركا لا تصلح لقيادة العالم، لأن القوي الذي لا يتمتع بقيم أخلاقية تردعه، لا يشكل خطراً على من حوله فحسب، بل يشكل خطراً على نفسه أيضاً».
والحق أن كل ما جرى منذ ذلك الوقت حتى الآن زاد من رسوخ هذه القناعة في عقلي ووجداني، فالولايات المتحدة تحصل على الحصة الأكبر من خيرات العالم، بما يعادل أضعاف قدراتها الإنتاجية وثرواتها الطبيعية، وهي تعمل على استمرار هذا الوضع من خلال سياسة الترغيب والترهيب، فهي تسيطر على كثير من الحكام من خلال السكوت عن فسادهم وتبتز من يحاولون التمرد عليها من خلال تهديدهم بكشف فضائحهم الموثقة بالصوت والصورة، أما الدول التي لا تنفع معها الإغراءات الأميركية ولا تخضع لسياسة الابتزاز، فتستخدم أميركا معها سياسة الأرض المحروقة، وكلما رفعت دولة رأسها وحاولت أن تفتح فمها بما لا يخدم مصالح أميركا، يقوم مهندسو الحرائق في البيت الأبيض بإشعال النيران في تلك الدولة، لا بقصد إلهاء أبنائها بالحريق فحسب، بل بغية استغلال الحريق للتدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدولة بعد أن يتنكر مشعل الحريق بزي رجل الإطفاء.
يعلم الجميع أن علاقات صدام حسين مع الغرب وأميركا كانت جيدة طوال حربه على إيران وقد كان من شأن تلك العلاقات أن تتطور وتزدهر لو لم تخطر ببال صدام حسين فكرة خطيرة من شأنها، فيما لو طبقت، أن تقوض أسس الرفاهية الأميركية، والتفوق الغربي، فقد طالب صدام دول الأوبك «بعدم قبول الدولارات الأميركية ثمناً للنفط»! فكان لابد أن ينال العقاب الرادع كي يكون عبرة لمن يعتبر، لكن النهاية التراجيدية التي انتهاها صدام كأضحية صبيحة عيد الأضحى، لم تعن شيئاً لمعمر القذافي، فما كان منه إلا أن ناشد «الدول المنتجة للنفط ألا تبيع نفطها بالدولار الأميركي ولا باليورو الأوروبي بل بالذهب»، ولهذا كان لابد من انتقال الحريق إلى بيته لأن ما طالب به القذافي كان من شأنه أن يؤدي لإفلاس كل البلدان الغربية تقريباً لأن معظمها لا تملك من احتياطي الذهب ما يغطي كل ما تصدره من عملاتها الورقية.
صحيح أن ليبيا كانت تعاني الفساد الذي هو تحصيل حاصل في الأنظمة الفردية المنفلتة من رقابة مجتمعاتها، إلا أن النزاهة تقتضي أن نعترف بما تحقق على أرض الواقع في ليبيا، فليبيا لم تكن تدين بقرش واحد لأي دولة في العالم، وربع الليبيين تقريباً باتوا من حملة الشهادات الجامعية، وصار متوسط دخل الفرد الليبي هو الأعلى في إفريقيا.
لقد كان المواطن الليبي يحظى، في بلده، بمعاملة لا مثيل لها في إفريقيا ولا في كثير من دول العالم، فهو يحصل على القروض بلا فوائد، ويتلقى التعليم والرعاية الطبية مجاناً، وعندما يتزوج يحصل على بيت مجاناً، كما يحصل العروسان على منحة تعادل خمسين ألف دولار، وتحصل المرأة التي تلد على منحة مقدارها خمسة آلاف دولار، وعندما يقرر الليبي شراء سيارة تتحمل الدولة نصف ثمنها، أما إذا قرر العمل في الزراعة فتمنحه الدولة الأرض والمعدات والبذار والحيوانات التي سيربيها، وعندما لا يجد العلاج داخل ليبيا يوفد إلى الخارج للعلاج على نفقة الدولة، كما يحصل الخريج الجامعي الذي لا تؤمن له الدولة فرصة للعمل ضمن اختصاصه على راتب يعادل الراتب الذي يحصل عليه عندما يكون على رأس عمله، هذا عدا حصة كل مواطن من النفط التي كانت تودع في حسابه المصرفي!
لقد وضعت الدول الإمبريالية الثلاث، أميركا وبريطانيا وفرنسا، كل ثقلها لتدمير نظام القذافي في ليبيا لا حُباً بالليبيين ولا كرهاً بالقذافي، بل دفاعاً عن اقتصاداتها المترنحة، لتأبيد وضعها المتميز على حساب بقية شعوب العالم، وها هي هذه الدول المجرمة تواصل اجترار أكذوبتها الكبرى المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية، لتغطية تعاونها مع الفاشية في حربها القذرة من أجل النفط وخطوط الطاقة فوق الأرض السورية وتحتها.
قبل أيام وصفت مندوبة أميركا في مجلس الأمن نيكي هيلي بصفاقة لا مثيل لها استخدام روسيا للفيتو دفاعاً عن سورية بأنه خيار «غير أخلاقي»! حقاً من استحوا ماتوا!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن