سورية الجديدة
| د. نبيل طعمة
تحتاج إلى صنَّاع الحياة؟ كم نحن مدعوون لاستنهاض الهمم؟ وكم محتاجون إلى الصدق والإخلاص في العمل؟ كم نحتاج إلى التسامح والتحلي بمشاعره والسير على سبله؟ كم حاولوا تمزيق نسيجنا ووحدتنا الوطنية؟ كم حاولوا هدم بنائنا، وعملوا على ذلك، ونجحوا في بعضٍ من المفاصل التي حملت الخلل، فسهل اختراقها؟ إلا أن سورية المتجددة الخلاقة التي تنهض من بين ركام أزماتها تحتاج مباشرةً للإمساك بالفنون السبعة + واحد، وأقصد الرياضة بكامل أبعادها، التي أصنِّفها اليوم مع الفنون السبعة، لما لها من تأثير في لمِّ المجتمع وتوحيده ورفع ذائقة الحبِّ للوطن وبين أفراده، فالواقع يدعونا سريعاً للعودة لفهم مرتكزاتها وفهم قواعدها بغاية إزاحة التشوُّهات الهائلة التي لحقت بها وتحويل التعامل معها من فنون وظيفية بلا نتائج إلى حالات إبداعية تحمل سمة الديمومة بعد أن نجري كشوفاً على الأمراض الاجتماعية والثقافية والفكرية التي انتشرت فيما بيننا، وسكنت عقولنا، فأوصلتنا إلى ما نحن فيه، وبدأنا الخروج منه، أي إنه لدينا فرصة كبيرة لتحقيق السلام الاجتماعي والمدني وإنجاز استقرار سياسي مهم وفريد إذا اندفعنا بعجالة للسير في فرد أدوات الفنون السبعة + الرياضة، وعممناها بين أفراد حوارينا وشوارعنا وقرانا ومدننا، ومؤكدٌ نكون قد سرَّعنا في بناء الإنسان وبناء حجره في آن؛ أي إعادة إعمار سورية، وإن لم نتجه إلى هذا المذهب، فمؤكدٌ أننا في حالة توهان وخسران ودوران في المكان، حتى وإن طفا على السطح بعض الأمان المهم، فعلينا أن ندخل إلى الجوهر الذي تسكنه الحقائق المحتاجة إلى التحرر من عقد الماضي والحاضر، وما يحضر له في المستقبل.
هلّا سألنا صانعي قراراتنا أين نحن وماذا أنجزنا عبر مئة سنة من بناء الدولة؟ هل ارتقت الذائقة الجمالية لدى الفرد؟ أم إنها متقوقعة ضمنه؟ وأكثر من ذلك تراجعت إلى درجات خطِرة وانحدرت، ودليلنا أن المخالفات غدت سيدة المواقف في البناء والحركة والمسير. هلّا توقفنا لبرهة، وتأملنا الحاصل لنعرف فقط ما الذي يجري معنا وحولنا؟
مؤكد أن الجميع ينشد الخلاص، والكل يبحث عن الحب والجمال والعودة للعمل والبناء، وكل من موقعه، وبشكل متفق عليه بضرورة الانتهاء مما نحن فيه، ويعد الجميع بالاتجاه إلى الأمام بالشكل الأفضل، الكل يحمل بين جنباته الحلم بالوطن النوعي القوي بعد أن عانى ما عاناه من ضغط الحسد المحيطي والإرهاب المقيت الذي أصاب الجميع المؤمن به والمخدوع الذي تمَّ التلاعب فيه دينياً وعلمانياً.
تعالوا نعترف بأننا وحتى اللحظة لم نمتلك مَعْلَماً معمارياً، ولم نسعَ لإظهار هوية معمارية باستثناء ذاك المبني في عهود الاستعمار المتعدد الذي مرَّ من تاريخنا القديم والحديث، وهذا دليل على التخلف، ولم نستطع أن نقدم منحوتة فنية نتباهى بها، تكون خاصتنا، ولم نقدر على إنجاز مقطوعة موسيقية نترنَّم بها نحن أولاً، ليأخذها عنا الآخر، أين نحن من التصوير الفني والضوئي؟ أين لوحات رسامينا؟ إلى أين وصل مسرحنا؟ وأين راقصونا وراقصاتنا؟ ماذا قدمنا للسينما سوى تلك الأفلام التي نتبادل جوائزها مع من يشبهنا في محيطنا؟ ومن كل هذا وذاك، أين نحن من الرياضة التي أعتبرها الفن الثامن؟ قد يقول البعض لدينا إنجازات، وأنا أؤكدها أيضاً، ولكن أين ديمومتها؟ نعم أيها السادة هي في ترتيب الطفرات والحالات النادرة التي سرعان ما تذروها الرياح؛ أي إن لا بصمات حقيقية في كل مناحي الفنون، فكيف بنا لا نتأخر، ونتخلف عن مجموع الركب الإقليمي أولاً، والعالمي ثانياً؟! هذا التخلف الجمالي والتهذيبي يؤدي بنا إلى استعار الصراعات بين الفينة والأخرى وغزْوِنا من الداخل بسهولة وتحويلنا إلى شراذم يسهل اصطيادها، وتدمير أي حالة تقدم منشأة، أو تتجه للقيامة من الحالة المعيشة مما نحن فيه وعليه، وعلى الرغم من الاجتهادات السياسية الهائلة لتطوير البنى الاقتصادية والعسكرية، إلا أنه مازال هناك خلل كبير في البنى الثقافية والتعليمية والتربوية والدينية، لأن المدارس الثلاث مازالت منفصلةً عن بعضها بشكل كبير، ما يظهر خطورة المشهد التفاعلي والتناغمي فيما بينها، فالمنزل والأسرة والشارع بما يحتويه، والمدرسة الأولى وما تتداوله، لم تقدر الثلاث على إنجاز حتى عمليات التجانس في حدودها الدنيا، والكل يعمل ضمن ثقافة الحد الأدنى لبناء وطن جميل، وهذه الثلاثية هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن بناء الذوق الجمالي، فلا علوم تطور اللباقة والكياسة والإتيكيت، ولا علمية في التحرر الجنسي والديني، ولا نظم تقدم الشخصية العلمية الفاعلة والمنتجة، وعلى العكس تماماً نجد أن الانفصال في الشخصية الواحدة هو المعمم، فلا تصالح مبدئياً بين جوهر الإنسان ومظهره، وكلاهما على تضاد مما يرينا الواقع بدقة.
إنَّ التخلف سيد الموقف، وإنَّ الذي نحياه يدخل تحت مسمى المشاريع الوظيفية الروتينية وعدم تحمل المسؤوليات بالشكل اللائق والدقيق، وبشكل أدق نحن نحمل مشروعاً استهتارياً بقيمة وطن، والكيفية التي ينبغي أن يكون عليها.
اليوم قبل الغد، وبعد كل العواصف التي مررنا بها، نجد أن بعضاً من الشارع السوري مازال منفلتاً وغير منضبط، يتسكع بلا فاعلية، نجده تائهاً منتظراً أن يقدم له الجديد، وأن يملأ فراغه بالعمل والانشغال فيه، لأن عدم توفير فرص العمل وإملاء الفراغات بالترفيه يوفر البيئة لامتلاك مساحات كبرى من الفراغ الذي يستدعي الشيطنة، أو يحضر إليه الغريب في شيطنة، والمثل يقول: (ندرة الشغل شغل) فإن لم يشتغل لوطنه، ويستفد منه، تأخذه أفكاره إلى التشدد والضياع.
لنسرع بفرد الفنون السبعة، وندعو الرسامين للاشتغال بفنونهم على الجدران وإنجاز لوحات ثقافية وتعميم فرق المسرح الشبابي، ولينتشر عازفو الغيتار والكمان والأكورديون والفلوت في الساحات والحدائق، ولتقم البلديات بتقديم رؤى لتجميل الواجهات وصناعة هويات معمارية للأحياء والمدن والبلدان، ولينحت النحاتون أينما وجدوا، وليزرعوا البلاد طولاً وعرضاً بمنحوتاتهم، لتتقدم كليات العمارة بإبداعات أبنائها، فإن أردنا المضي قدماً في تصحيح أخطاء ما مضى وبناء وطننا، ينبغِ أن نتجه للعمل بإخلاص، كل من موقعه، للخلاص من معاناتنا وتخفيف آلامنا والالتفات إلى من يدعمنا في إعادة بناء أرضنا وإنساننا، فمستقبلنا رهن أعمالنا وخططنا، وما ننجزه له، وبذلك نطوِّر الشعور الإنساني الذي يتعزز بحضور الحبِّ للوطن والتجذُّر فيه والتمسك به، وبهذا نصل إلى أننا إن أدركنا هذه الأهداف التي قدمنا لها نحدث تطوراً نوعياً وداعياً تجاه تقديم الخدمات الحقيقية للآخرين، ونعزَّز أن خدمة الوطن تحضر بتطوير أبنائه من الأكثر وعياً للأدنى، وهذا يؤكد أن خدمة الإنسان والمجتمع تترفع عن خدمات الإنسان لنفسه دينياً أو مذهبياً أو طائفياً، ويظهر من خلال ذلك فكرٌ إنساني اجتماعي وطني بامتياز.
إن مسؤولية الدولة تتجلى في تعميم العمل ومراقبة الفراغ والاتجاه لرفع الذائقة الجمالية للمواطنية، وهي قادرة على ذلك من خلال نزول المسؤول إلى المواطن والأخذ بيده بالمنطق السليم إلى الصحّ، ومرةً ثانية أؤكد أن فرد مفردات علم الجمال يؤدي إلى ظهور وطنٍ جميلٍ على كامل ثراه.