أردوغان ومسرحية إدلب
| بيروت – محمد عبيد
إلى متى سيتمكن نظام رجب طيب أردوغان في تركيا من الاستمرار في التلاعب على حِبال التناقضات الدولية والإقليمية وخصوصاً منها ما يتعلق بالأزمة في سورية كي يحفر لنفسه موقعاً متقدماً في خريطة التوازنات التي من المفترض أن تفرزها تداعيات هذه الأزمة على الإقليم.
تساؤل فرضه احتلال بعض القوات العسكرية التركية لمناطق عديدة في محافظة إدلب بذريعة مساهمتها في «تخفيف التوتر» في المناطق التي تم الاتفاق عليها في اجتماعات أستانا، وهي الذريعة التي ستحاول أنقرة الاستثمار فيها لتشريع هذا الاحتلال، وربما توسعته لاحقاً لينال مناطق أخرى تقع ضمن الكانتون المستهدف إنشاؤه من قبل بعض الانفصاليين الأكراد السوريين.
ومشروع الكانتون الكردي سيسعى النظام التركي إلى التذكير الدائم به باعتباره قضية تحظى بإجماع الأطراف الأربعة الإقليمية: سورية والعراق وتركيا وإيران على منع قيام هذا الكانتون، وانطلاقاً من أن هذه القضية يمكن أن تبرر الاحتلال التركي المباشر لأراض سورية، يشكل وجود التنظيمات الإرهابية عليها واحتمال إنشاء كانتون كردي خطرين إستراتيجيين على الأمن القومي التركي بل على وجود الدولة التركية ككيان موحد.
كان من الممكن اعتبار الذرائع والتبريرات التركية معقولة ومقبولة لو أن أردوغان وسلطته لم يكونا منذ البداية المحرض الأساس على إسقاط الدولة في سورية، ولو لم تكن الحدود التركية المتاخمة تحديداً لمحافظة إدلب، الممر الأوسع لتدفق إرهابيي العالم كافة إلى الداخل السوري، ولو لم تشكل البيئة «الإخونجية» التركية حاضنة سياسية وإعلامية ولوجستية لما يسمى تجمعات المعارضة على مختلف صنوفها الكلامية غير الفاعلة والمسلحة المجرمة والقاتلة.
في كل الأحوال، أظهرت الحركة المسرحية التي قام بها الجيش التركي خلال عملية احتلاله لبعض المواقع داخل الأراضي السورية والتي تمت بالتنسيق الكامل مع الفرع السوري لتنظيم القاعدة جبهة النصرة، أن النظام التركي يتعامل مع هذه الجبهة على أنها منظمة عسكرية خارج التصنيف الإرهابي بما يتناقض مع التصنيف الذي تعتمده الأطراف الأخرى الراعية لـ«أستانا»، وكذلك مع قرارات مجلس الأمن الدولي التي تساوي بينها وبين تنظيم داعش، وهذا يعني أنها من المفترض أن تكون محل استهداف دائم من الجيش العربي السوري وحلفائه بمن فيهم القوات الروسية المشاركة في الحرب على الإرهاب، وخاصة أن هذه الجبهة تضم عملياً القيادات الإرهابية البارزة من الشيشان وتركمانستان وغيرها، والتي تسعى القوات الروسية لإنهاء وجودها هناك ومنع عودتها بأي طريقة إلى محيط الاتحاد الروسي.
إن هذه الحركة أكدت بما لا يقبل الشك أن نظام أردوغان يسعى إلى التموضع السلمي بهدف تجميد الواقع العسكري وليس «تخفيف التوتر» فقط بانتظار بيع مهمة القضاء على جبهة النصرة وغيرها من التنظيمات الإرهابية على طاولة التفاوض، لنيل حصته من النفوذ الإقليمي في سورية كما يعتقد، إضافة إلى الإبقاء على المجموعات المسلحة الأخرى تحت عنوان أنها قوى «معتدلة» مسلحة ترغب في الانضمام إلى العملية السلمية ونيل حصتها في التسوية السورية الداخلية المفترضة.
لاشك أن سياسة الاحتواء التي اعتمدتها إيران مع تركيا أولاً، ومن ثم استساغتها روسيا في مقاربتها للدور التركي في الأزمة في سورية، أدت حتى الآن إلى التحييد السلبي لهذا الدور، كذلك مَكّنتهُما من الاستثمار في الوقت الذي استوجبته الاستدارة البطيئة لنظام أردوغان، ولكن يجب ألا يفوتنا أن هذا التموضع السياسي التركي، أتى في ظروف أحوج ما يكون فيها أردوغان إلى حماية إقليمية ودولية بعدما سقطت رهاناته كافة على إمكانية استعادة النفوذ «العثماني الإخونجي» في المنطقة العربية انطلاقاً من سورية ومصر، وبعدما تكشفت لأردوغان البرودة المُريبة التي تعاطت بها الإدارة الأميركية مع محاولة الانقلاب عليه، بالترافق مع حماية واشنطن لعدوه اللدود والمتهم الأول عنده بتدبير هذا الانقلاب فتح اللـه غولن، وكذلك بعد إخفاقه في تثبيت التوازن بين انتمائه إلى الحلف الأطلسي «الناتو» وبين شراكته المستجدة مع أعداء هذا الحلف وخصومه: إيران وروسيا.
على أي حال، كلما اقتربت نهاية تنظيم داعش في سورية والعراق اقتربنا من صياغة الحلول التامة للأزمة المصطنعة القائمة في البلدين، ومن تحديد الأدوار النهائية للدول التي ساهمت في صناعة هذه الأزمة أو تلك التي حاصرتها ودفنتها، عندها يمكن الحكم على رغبة النظام التركي في التوبة ومحاولة إصلاح ما خربه، أو أنه كان وما زال يسعى لتحقيق ما عجز عنه عسكرياً من خلال المسايرة السياسية.