الإبداع والحرية
| إسماعيل مروة
هل يصنع الأديب قولنا لأحدهم: أنت أديب؟
وهل يجدي أحدنا أن يسمع شهادات من شخصيات اعتبارية ليغدو كاتباً يشار إليه في عالم الإبداع؟
وهل الإبداع رغبة عند أحدنا؟ وهل البحث سمة يمكن أن تلبس أحدنا برغبته؟
كثيراً ما تسمع بأن أحدهم يريد أن يصبح قاصاً أو شاعراً، بل يحاول كثيرون أن يعلقوا لؤلؤ ألفاظهم على ورق فاخر ليقول عنهم الناس، وليتحدث عنهم المتحدثون، ويأتي المبدع الحقيقي، يستنفر روحه، يكتب عمره ولا يجد قارئاً حقيقياً، وبذلك يتساوى هذا مع ذاك، ويتفوق الأول بالوجاهة التي اكتسبها من تطويب شخصيات اعتبارية..
الإبداع قبل كل شيء لوثة تأتي مع هذا أو ذاك، ولا يمكن أن يكون المبدع مبدعاً من دون توافر هذه اللوثة التي تقترب من الجنون، وفوق اللوثة الإبداع حرفة ينميها أحدنا بالقراءة والمدارسة والتأمل، فالمبدع لا تنتش لوثته بالجهل وقراءة ذاته، وإنما بالقراءة الدائمة لكل ما تقع عليه يده، سواء كان مستحقاً أو لم يكن، وكل ذلك يسهم في زيادة الكمّ المعرفي الذي يتراكم في لا وعي المبدع، فيساعده في إغناء معارفه، وفي تجويد إبداعه، وفي تجنب قضايا يمكن أن تؤثر في الإبداع تأثيراً سلبياً، ولعل أهم شرط من شروط الإبداع هو الحرية، وبصيغة أخرى، المعارضة للمألوف، مهما كان هذا المألوف، فما من مبدع يمكن أن يكون مدجناً، فالجزء من السلطة يصعب أن يكون مبدعاً، لأنه جزء من منظومة، ولابد أن يجنح إلى معارضة ليتمكن من تغيير السائد، والجزء من المنظومة المالية يصعب أن يكون مبدعاً وحراً، إلا إذا عارض القيم السلبية في منظومته كما فعل عروة بن الورد قبل ألف وخمسمئة سنة، ولم يصل إلينا عروة، ولم يصل إبداعه لولا حريته وخروجه عن المنظومة البورجوازية الصحراوية، فالحرية من أي قيد هي شرط، لذلك لا يستطيع مبدع مهما سما، وينتمي إلى المؤسسة السياسية أو الدينية أو الاقتصادية أن يكتسب سمة الإبداع.. يوسف السباعي كان روائياً ووزيراً وضابطاً، وكتب روايات، ومن موقعه تم تشخيصها للسينما، وأداها أكبر الممثلين، وتكفل بها أمهر المخرجين، وطبعت في أوسع الدور انتشاراً، وكتب فيه عميد الأدب العربي طه حسين نقداً موارباً، نال من جوانب وأشاد بجوانب، ومع كل الجهود لم يستطع يوسف السباعي أن يتجاوز زمنه، مع أن إبداعه فيه ما يستحق، لكنه افتقد شرط الحرية، وكذلك الأمر مع أغلب المبدعين الذين انتموا إلى مؤسسات سلطوية، بينما استطاع يوسف إدريس في مسرحية واحدة هي (الفرافير) وبمجموعة هي (بيت من لحم) أن يتجاوز حدود الإبداع المدروسة.. وشواهدنا السورية أكثر من أن تحصى، فنزار قباني وصل إلى ما وصل إليه بشرط واحد هو الإبداع الحر، فقد خرج من بيئة، وخضّها بعنف ليصل إلى قرار الموجة، وكان ابن مؤسسة دبلوماسية فغادرها ليكون حراً، واستطاع أن يقف عند سلبيات التوجه الأيديولوجي، ومن ثم الديني ليصل إلى ما وصل إليه، ولعله أكثر من برع في التمييز بين الأفكار والأشخاص الذين يمثلونها، فوصل إلى قمة من إبداع مدهش في أكثر شعره، وفي قصيدته المتفردة (استجواب) حين قدم صورة الأدعية التي يمارسها صنف من المشايخ ودورها السلبي، وعرّج على شام العظيمة، فكانت منسرح حريته وإبداعه وهو لا يرى (في دكاكين الورود وردة كالشام) ولا (في دكاكين الحلي حلية كالشام) وفي رمز بارع سلّم ورفض في الوقت ذاته موت والده ابي المعتز (ضلال أنا لا يموت أبي) ومع أن هناك من أنكر عليه (ففي البيت منه روائح رب وذكرى نبي) إلا أن المبدع الحر يظهر رفضه للموت (لا زلت بي).. من المؤكد أن نزار قباني أدرك إبداعه وخلوده وبقاءه في مرحلة مبكرة فآثر الانعتاق والخروج من شرنقة الإلزام الذي لا يقبل رأياً صادماً فكسب إبداعه واسمه، وكسب الإبداع صوتاً لا يتكرر في أزمان متتابعة..
وفؤاد الشايب قاص جميل، لكن وقع عليه ما وقع على يوسف السباعي، وكان من الممكن لأدبه أن يكون أكبر مدى لولا انشغاله في مواقع مسؤولية، وقد استطاعت هذه المواقع أن تحد من نشاطه وإبداعه، ولم تجد محاولات الإنصاف، وخاصة من أصدقائه ومعارفه، وعلى رأسهم الدكتور عبد السلام العجيلي الذي أنصف الشايب كما لم يفعل أحد، ولكن العجيلي نفسه استطاع أن يتجاوز ما تعرض له الشايب، فغادر المكان واحتفظ بشرط الحرية والإبداع.. ففي (صدّق أو لا تصدق) قدم العجيلي بيئته من دون رتوش، وكان جريئاً في التقاط أسباب تخلف المجتمع، ولم يمنعه من ذلك مانع الانتماء والحرص، مع أن المؤدلجين من أبناء مدينته كانوا ينحازون إلى هذه البيئة، ونالوا من العجيلي نفسه، لكن العجيلي بصدقه وإبداعه بقي مبدعاً من النوع المختلف والمتوازن، وضاع أولئك.. وفي (ذكريات أيام السياسة) وفي (جيش الإنقاذ) كان العجيلي قمة في الإبداع والحرية في الوصول إلى لحظة من الصدق والتصالح عجز عنها الآخرون، ولم يشأ أن يجعل نفسه بطلاً على حساب أصدقائه، مع أنه كان من الممكن أن يفعل خاصة برحيلهم وغيابهم، لكنه لم يكن إلا ذلك المبدع الحر.. ناهيك عن جرأة البداية (باسمة بين الدموع) وتحمله للمطابقة بين شخصه وشخص البطل الأساسي في الرواية، لكن الإبداع الذي رامه العجيلي واختطه جعله غير متهيب من أي نتيجة، فانحاز إلى الإبداع في القص والرواية وكان له ما أراد، وحتى نهاية حياته لم يتنازل عن شرط الحرية في (حب أول حب أخير) و(أجملهن).. حتى في حياته الخاصة والشخصية كان العجيلي حراً، واتخذ قرارات أكثر من حرة، ودفع ثمن قناعاته، لأنه أراد أن يكون متصالحاً حتى النهاية، وبعض من يعرف العجيلي أكثر مما أعرفه ينتقدون أشياء في قراراته، ويتجاهل هؤلاء أن هذه القرارات محض إبداع وحرية، وهي سبيل لبقائه وخلوده.. رحل العجيلي وبقي إبداعه، ورغم غيابه لا يقترب من مكانته من يتخم أعيننا بكتابات تحت يافطات عديدة..
هل استطاعت السلطات العربية أن تصنع أديباً؟
هل خرج من إهاب السلطات أي مبدع عاش إبداعاً مهماً؟
لا أظن.
وثمة فرق كبير بين المنعتق الحر تولستوي، والمؤدلج مكسيم غوركي.
وبين نبوءة دستوفسكي والمنشورات الحزبية التي أصدرها آخرون..
الإبداع حرية والمبدع حر
ولا إبداع من دون حرية مطلقة..