تناقض التوازن والفوضى.. إستراتيجية واشنطن ولدت ميتة
| محمد نادر العمري
على وقع التطورات والمتغيرات الأخيرة التي مازال يشهدها الملف السوري بجناحيه السياسي والعسكري من حيث ارتفاع حدة المواجهات العسكرية ضمن الجغرافية الشمالية والكباش السياسي الذي أفرزته زحمة المؤتمرات الدبلوماسية العلنية والسرية، مازال صقور الإدارة الأميركية يتسابقون للإفصاح عن فصول إستراتيجية بلادهم تجاه سورية، كان بطل فصلها الأخير وزير الخارجية ريكس تيلرسون الذي أعلن من جامعة ستانفورد: «الحفاظ على وجود قوات بلاده العسكري في سورية إلى استكمال تنفيذ هزيمة داعش» وفق زعمه، بالتزامن مع تسريب مقصود بتوقيته ومضمونه وأبعاده لورقة ما سمي «مجموعة واشنطن» التي ربطت بقاء القوات الأميركية لحين البدء بالانتقال السياسي الذي يعد شرطا لدعم إعادة الإعمار.
إن واشنطن التي مازالت تصارع بكافة الوسائل والأساليب لتكريس نفوذها في المشهد السوري والحفاظ عليه ليشكل أداة ضغط في تحديد معالم الشكل السياسي السوري في أي مباحثات جدية، معتمدة على مسارين:
الأول يتضمن إدارة التناقضات بين حلفائها الخصوم، وهو مسار ليس بجديد ابتداء في احتواء الصراع الإيديولوجي الإقليمي ليكون منفذ واشنطن في إدارة الصراع على سورية والمنطقة عموما، إلى أن اتخذ شكل الصدام المباشر بين تركيا والقوات الكردية في عفرين السورية مع احتمال توسع جبهاتها نحو منبج.
ليتجلى بشكل واضح أن العمود الفقري لإستراتيجية واشنطن يعتمد على تكتيك تبديل الأدوار وتحجيمها للقوى الدائرة في فضائها السياسي بما يحفظ تواجدها لأطول فترة زمنية وعدم السماح لموسكو بامتلاك زمام مبادرة الإمساك بكافة خيوط الحل وتقييد مخرجات أي حل سياسي لا يتناسب مع أجنداتها أولا، وتعميق الأزمة وتوظيف الخطر الانفصالي كفزاعة للمنطقة بأكملها ثانياً، واستنزاف مقدرات جميع القوى الفاعلة على الساحة السورية ثالثا، وخلق فضاء جغرافي جديد للولايات المتحدة الأميركية تهدد به المشاريع الأوروآسيوية رابعا، فضلا عن استهدف محور المقاومة وقطع طرق الربط البري بين أطرافه حفاظا على أمن الكيان الصهيوني المقدس لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة.
ثانيا، يشكل استهداف الترتيبات الإقليمية المتوازنة التي انشئت بعيدا عن موافقة واشنطن ورغبتها صلب المسار الثاني للإستراتيجية الأميركية وبخاصة أستانا وتوءمها السياسي سوتشي.
هذان المساران للإستراتيجية الأميركية تلازما في الآونة الأخيرة، فقرار الهيئة العليا للتفاوض مقاطعة الحوار في سوتشي، واتخاذ القوى الكردية للمنحى ذاته بسبب العدوان التركي المفتعل أميركيا في عفرين، وتسريب وثيقة «مجموعة واشنطن» والتصعيد الأوروبي المتزامن، يؤكد ضلوع واشنطن بتعكير الظروف الموضوعية لإنضاج حل سياسي يزيد من تلازم هذين المسارين.
يبقى السؤال هل ستخضع القوى المتضررة من إستراتيجية واشنطن؟ بما فيها الحليفة في الناتو أي تركيا، والضحية الثابتة أي القوى الكردية نتيجة رهانها المتكرر الخاسر على مواقفهم واصطفافاتهم، وللإجابة عن ذلك لابد من التوقف عند عدة مؤشرات:
– وسائل الإعلام التركية وبخاصة المقربة من حزب العدالة والتنمية ومنها صحيفة «يني شفق» اعتبرت أن أميركا بدأت تشكل أكبر تهديد للأمن التركي وطالبت بإغلاق قاعدة أنجرليك الجوية التي تستخدمها واشنطن منصة لدعم العدو التاريخي لأنقرة في الشمالين السوري والعراقي، لتنفيذ مخططها الانفصالي.
– تراجع قوات «وحدات حماية الشعب» في عفرين، خطوة إلى الوراء بعد ضيق الخيارات أمامها وخيبة الأمل على الرهان الأميركي واستنجادها بالحكومة السورية للدفاع عن عفرين واعترافها أنها رقعة جغرافية سورية خاضعة لسلطة الحكومة السورية.
– التهديد العلني والصريح الذي صرح به المتحدث الرسمي للقوات الروسية في حميميم الجنرال «اليكسندر ايفانوف» بقوله: «إن إعلان المعارضة السورية امتناعها عن حضور مؤتمر سوتشي سيكون له تبعات عديدة على الأرض، وتأخر مسار العملية السياسية لن يكون من صالح المعارضة بأي شكل من الأشكال»، في رسالة واضحة أن موسكو لن تقف مكتوفة الأيدي عن محاولات تخريب مؤتمر سوتشي ليس من أشخاص المعارضة بشخصهم، بل من مرجعياتهم التي تعتبر واشنطن أحد أهم المراكز التي استقطبتهم منذ اسبوعين للتشويش على الحوار الوطني.
– مركزا القرار السياسي والعسكري بدمشق وطهران تراقبان عن كثب وبهدوء حذر التطورات الشمالية، ويبدو أنهما في أعلى درجات التنسيق لمواجهة أي سيناريوهات محتملة نتيجة اعتبارات متعلقة أولا باحتمالية التوصل لمقايضات أميركية تركية تهدف لاحتواء الغضب التركي وتحقيق جزء من مطالبه بإقامة منطقة عازلة بمسمى حزام أمني مقابل تكريس الوجود العسكري الأميركي، وثانيا، مواجهة المراوغة التركية وقطع الطريق أمامها في نقل ملفي عفرين ومنبج لتصدر اجتماعات أستانا القادمة لشرعنة عدوانها، وهذا ما تناوله صلب لقاء الرئيس بشار الأسد مع مساعد وزير الخارجية الإيراني حسن جابري أنصاري منذ أيام، من حيث كيفية التصدي للعدوان التركي وبحث مخاطره ومنعه من تحقيق غاياته المتمثلة في احتلال أراض سورية.
من الواضح أن الخيبة الأميركية الداخلية ترخي بظلالها على إستراتيجية واشنطن تجاه سورية، بسبب اعتمادها وفق تقرير لصحيفة «واشنطن بوست» على تناقض التوازن بين حلفائها الخصوم وما قد يؤدي إلى تغير طبيعة التحالفات تزامنا مع انجازات ميدانية يحققها الجيش السوري وحلفاؤه مانعا بذلك انجاز أي إستراتيجية أميركية باتت واضحة معالمها منذ سنوات حتى قبل أن تعلن.