أولويات السياسة «البوتينية» بعد الانتخابات الرئاسية
| محمد نادر العمري
اتسمت السياسة الروسية التي حدد معالمها الرئيس فلاديمير بوتين، وبخاصة في العقد الأخير بالواقعية والمنطقية المبنية على فرض التصورات والتصدي لمحاولات الهيمنة الغربية بالإضافة لتطبيق إستراتيجية طويلة الأمد لتحقيق المصالح الروسية والتعامل ببراغماتية مع التحولات والتطورات الإقليمية والدولية.
هذه المعطيات تؤكد بأن روسيا في عام 2018 وبخاصة أثناء فترة الانتخابات الرئاسية وما يليها ستواجه بجملة من التحديات حيث تعد نسبة المشاركة في الانتخابات المقبلة من أهم التحديات التي يواجهها النظام السياسي الروسي، فغياب أي منافس قوي للرئيس بوتين إضافة إلى تداعيات داخلية ناجمة عن حالة الركود الاقتصادي، سيشكلان عاملين لعزوف الناخبين، لذلك توجه بوتين لوضع خطة عامة لجذب الرأي العام للمشاركة عبر إطلاقه مبادرة لمحاربة الفساد وإقدامه على توسيع دائرة الإقالات من المناصب بما في ذلك العليا منها واعتقال الفاسدين، واستغلال التقدم التكنولوجي في خلق فضاء للتواصل مع الشعب الروسي بشكل مباشر.
إن تبني بوتين لمبدأ جوسودار ستفينيكي الذي يعتمد على إقامة دولة وطنية قوية في مقابل معارضته الشديدة لسياسة زابدنيكي الذي يدعو للتقارب مع الغرب على حساب السيادة الوطنية، يضع في قائمة اعتباراته مواجهة التحديات الداخلية التالية:
1- ضمان الحفاظ ودعم الاستقرار وتدعيم قوة الدولة المركزية وترسيخ التماسك الاجتماعي في مواجهة أي تهديد للتيارات والتنظيمات المتطرفة في شمال القوقاز.
2- تحفيز الاقتصاد الروسي الذي يعاني من حالة ركود وارتفاع مستويات التضخم الناجمة عن العقوبات المفروضة من الغرب وتراجع أسعار النفط، وهذا سيدفع بوتين للتشدد في التركيز على ضبط مستويات الإنفاق الحكومي ومواصلة خطة الإصلاح التي تبناها في عام 2014، وخلق مناخ لتدفق الاستثمارات والتصدي لهروب رؤوس الأموال الروسية والبحث عن أسواق جديدة اعتمادا على تقوية التكتلات الاقتصادية.
3- تعزيز القدرة والقوة العسكرية الروسية، وهذا ما تمكنت روسيا من التوصل إليه في الصناعة والبحث العلمي العسكري وظهر واضحا على صعيدين، الأول: تفوق السلاح الروسي بمعظم مجالاته على نظيره الغربي وبخاصة الأميركي في الميدان السوري وبمواجهة الإرهاب، في حين شكل خطاب الأمة للرئيس بوتين مفاجئة من العيار الثقيل تضمن استعراضا للعضلات وفرض توازن ردع نووي جديد في مقارعة الناتو والولايات المتحدة، ردا على السلوك الاستفزازي للناتو في نشر الدرع الصاروخية لمحاصرة موسكو وتطويقها في رومانيا وبولندا ودول البلقان، فالصواريخ البالستية العابرة للقارات وشقيقتها «كروز» الموجهة و«سامارت» غير المحدد بمدى معين فضلاً عن نشر منظومة دفاع جوية متطورة «S400» واستخدام طائرات سوخوي من الجيل الخامس في السماء السورية، هو دليل على إظهار مدى جدية روسيا بفرض نظام ردع دولي جديد، وفي هذا الإطار فإن بوتين يحرص على استمرار هذا التفوق العسكري من حيث النوع على حساب الكم في مقارعة الغرب وعدم الانجرار لسباق تسلح وفق الرؤية الأميركية.
إن فرض عودة روسيا للنظام الدولي وتمكنها من إقحام نفسها بمعظم الملفات الساخنة في العالم، مقاربة جديدة قوامها حق روسيا التاريخي في أن تكون دولة قوية وفق تعبير بوتين، وعلى نحو مغاير تماماً لما كانت عليه الحال في تسعينيات القرن المنصرم بانفراد واشنطن في إدارة النظام الدولي، وأمام هذا التوجه البوتيني تكمن تحديات خارجية على موسكو تفاديها:
أولا: مواجهة النفوذ الأميركي، فالعلاقة بين موسكو وواشنطن بغض النظر عن طبيعتها صراعاً كانت أو تعاوناً، هي أبرز التحديات التي يأخذها بوتين في حسبانه ونجح في تسجيل العديد من النقاط بمرمى نظيره الأميركي وبخاصة في الأزمات والملفات التي لها أبعاد جيوسياسية واقتصادية ولها تأثيراتها على شكل النظام الدولي وبطبيعة العلاقات والتحالفات الدولية، كالأزمات السورية والأوكرانية والنووية الكورية الديمقراطية ونظيرتها الإيرانية والمواجهة مع الناتو ومع الرأسمالية وحرب الطاقة البديلة والعلاقة مع أوروبا.
ثانيا: العلاقة مع النظام الإقليمي ودعم المشروع الأوراسي، فالحفاظ على المكانة الروسية وتمكينها يتطلب استقراراً بالدرجة الأولى على محيطها الإقليمي، وهو ما سيدفع بوتين بالاستمرار في تعزيز وجودها وتأثيرها في الجمهوريات السوفيتية السابقة في إطار عقيدة «الخارج القريب» وتعزيز التكامل بين موسكو وجيرانها في آسيا الوسطى والقوقاز ودول البلقان وجذب باقي دول المنطقة للانضمام للاتحاد الأوراسي كإطار مؤسسي يهدف لخلق مناخ سياسي واقتصادي وأمني، وتعميمه لنطاق دولي ضمن إطار دول البريكس.
ثالثاً: مواجهة التدخلات الخارجية وإدارة التحولات غير المتوقعة، فيبدو واضحاً أن واشنطن تلجأ لإتباع السياسة الناعمة كمحاولة غير مجدية النتائج في التأثير بالانتخابات الرئاسية الروسية ولكنها قد تخرج عن إطارها السلمي في مرحلة ما بعد الانتخابات، وهنا يتمثل الشق الثاني من هذا التحدي أي الاستعداد للتحولات والمتغيرات الداخلية والخارجية التي قد تتعرض لها موسكو في ظل فوضوية النظام الدولي الذي يشهد مخاضاً قد يتعسر في تشكله ويكون له نتائج فوضوية نتيجة تعدد الدول الصاعدة وتناقض الاصطفافات وتأثير الفاعلين من غير الدول وتزايد حدة التهديدات العابرة للحدود مع انتشار الإرهاب وتوظيفه كأداة للسياسات الغربية.
إن استطلاعات الرأي الروسية والأوروبية التي سلمت بتربع بوتين على عرش الكرملين للمرة الرابعة، لن تكبح طموح قيصر العصر الحديث في تمتين الدور الروسي دولياً، والمقاربة البوتينية في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية بدأت تتجلى بوضوح لأن القيصر الروسي يدرك بأن الحفاظ على القطبية الدولية أصعب بكثير من الوصول إليها والتاريخ القريب الذي أورثه الإرث السوفييتي خير دليل على ذلك.