الرمز في الأدب الصوفي شعره ونثره … مع الصوفيين اكتسبت الألفاظ غنًى في الحب الإلهي
| أحمد محمد السّح
ينزع الصوفيون في فطرتهم إلى الكمال والتسامي والمعرفة، وقد انعكس هذا السلوك في الأدب شعراً ونثراً لدى الصوفيين وخاصة في شعر ابن الفارض ومحي الدين بن عربي، حيث نجد أن لغتهم اعتمدت الرموز والابتعاد عن التصريح، فكان المجاز وكانت درجاتٌ تتراوح بين المعاني الحقيقية والمعاني اللزومية.. تصعب على العالِم فكيف بالعادي من الناس؟
فالصوفيون يعتمدون على الخمرة اسماً ورمزاً حين يتحدثون عن الوصل ونشوته، ويطلقون على الرفيق الأعلى اسم المحبوبة، فهو ليلى، أو لبنى، أو سعدى أو سواها.
حذارِ من الواشين أن يفطنوا بنا
وإلا فمن لبنى؟ فدتك ومن ليلى
فالأسماء والماديات التي يستخدمونها هي أدواتٌ للدلالة على المفاهيم الوجدانية، على الرغم من هذا الشكل المادي فيما يقولون، فالغزل الحسي والوصف الحسي، والخمرة كلها معانٍ روحية، لأنهم عجزوا عن إيجاد لغةٍ للحب الإلهي التي تستقل عن الحب الجسمي الدنيوي، فحين يحلّق الشاعر بأدواته المادية وأخيلته يكون قاصداً أن يصل الحب الإلهي، الذي ينطبع في القلب فحسب، وإن ذكر الوجه والشَّعر والعيون.. فهم يقولون:
وجهك المأمولُ حجتنا
يوم يأتي الناسُ بالحِججِ
هذه الألفاظ لم تكن يوماً غريبةً عن الشعر الصوفي في الإسلام، لكنها مع الصوفيين اكتسبت غنىً وصار لها شكلُ الألفاظ العلمية التي لا يقف على معانيها إلا المختصون، فهم الذين اعتمدوا على السفر، والمقام، والفناء والبقاء.. واعتمدوا في اللغة على الطباق والجناس والتورية، والمقابلة.. كما في بيت ابن الفارض:
معتبٌ لم تعتبِ، وسلمى أسلمت
وحمى أهل الحِمى، رؤية رى
وما معتب وسلمى ورى إلا محبوبةٌ واحدة، فالصوفي لا يشرك في حب الرفيق الأعلى، لكنه يغيّر في التعابير، وذلك لإظهار الهيام وألوان الصبابة.
وتعدد الأسماء تشير غالباً إلى الحيرة، فالصوفي يرتاح إلى الحيرة، كما يرتاح الجاهل إلى اليقين، وكثيراً ما يكون سبب الرمزية أن الأديب لا يتحدث بلغة العلم، إنما بلغة الروح والباطن، وأحياناً تكون الرمزية ذات شكل موضوعي، كما في «رسالة التربيع والتدوير» للجاحظ و«رسالة الغفران» للمعري. أما رمزية الصوفيين فهي تجمع بين رمزية الأسلوب ورمزية الموضوع، وتعتمد الاستعارة والمجاز والتمثيل والتورية. وما كان سبب شيوع هذه الرمزية في أدب الصوفيين سوى أنها الوسيلة الوحيدة للتعبير عن المعاني والمشاهد والإحساسات النفسية التي لاعهد للغة بها من قبل.
وما قول ابن الفارض إلا نموذج لهذا:
بها لم يبح، من لم يبح دمه وفي
الإشارة معنى ما العبارة حدث
فالرجل الذي يريد أن ينجو من ضغط العامة وتخلّف المجتمع عليه، لا يستطيع البوح بالحقائق التي يدركها بمشاعره وروحه، حتى لا يباح دمه، فتكفي الإشارة لتتحدث عما تريده العبارة، ومثل هذا قاله الحلاج وابن عربي بشكل واضح في شعرهما. فابن عربي يقول في ديوانه «ترجمان الأشواق».
كل ما أذكره من طللٍ
أو ربوعٍ أو معانٍ كل ما
وكذا إن قلتُ ها، أو قلتُ يا
وإلا إن جاء فيه أو أما
فكلام الصوفيين لا يقصد به ظاهره، إنما له معنى يهدف إليه الصوفي، فكثيراً ما يخرج الصوفيون بغزلهم الإلهي، إلى فكرة وحدة الوجود المتغلّبة عليه، ومحي الدين بن عربي يرمز في شعره ويقول:
حقيقتي همتُ بها
وما رآها بصري
ولو رآها لغدا
قتيل ذاك الحَوَرِ
ويطيل في هذه القصيدة الوصف الحسي لمحبوبةٍ أنثى، حيث يأخذ من صفات القمر والنور والظبي، ويسبغها عليها، ويعلن حرقته للقائها، لكنه في مقصده يسعى إلى النور الأسمى والقدس الأعلى، فالشعر لغةُ الوجدان وهو نتاج خيالٍ محلّق، وشعراء الصوفية كثيرون في كل عصر حتى يومنا هذا، ومنهم قال وأكثر وتسامى في القول، وتسببوا في حدوث تحولات في الشعر الديني، ويمكن القول تاريخياً إن الشعر الصوفي بدأ في أوائل القرن الثامن الهجري، على يد الحسن البصري وتلامذته من بعده، وبعدها مر الشعر الصوفي بمراحل متعددة كان لكل مرحلةٍ شعراؤها الذين طوروا في أدوات الرمز والإشارة والتلميح، وإن امتاز بالوضوح أحياناً كما في بعض شعر الحلّاج الذي أرداه اقترابه من الوضوح.
أتفرح بالذنوب وبالخطايا
وتنساه ولا أحدٌ سواهُ
فتبْ قبل المماتِ وقبل يومٍ
يلاقي العبدُ ما كسبت يداهُ
فالحلاج سعى إلى كشف عمى الأبصار والبصائر، ليوضح أنه ما من مكان يخلو من وجود الله! كما أوضح في شعره إيمانه بالقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومرّهِ، وله قوله الشهير:
اقتلوني يا ثقاتي
إنَّ في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي
وحياتي في مماتي
وبقائي في صفائي
من قبيح السيئاتِ
فالصوفيون والحلاج من أشهرهم اعتمدوا الحب الإلهي، الذي استحال عندهم إلى وحدةٍ للوجود، فهم يريدون محو ذواتهم واعتبار هذا الامحاء مكرمةً للوصول إلى الفناء والاندثار في الذات العليا، فالناس يبحثون عن الله، ولكنهم لا يعرفون طريقة البحث، وإن وجد منهم أن وجود الإنسان نفسه هو دليل على وجود الله.
من الضروري أن الحديث عن الأدب الصوفي لن ينفصل عن الحديث عن الأدب بشكل عام، لأنه جزء من المرحة الزمنية للأدب، والبيئات التي نشأ الأدب فيها، التي تتغير فيها الأساليب بين الإيجاز والإطناب أو الاعتماد على البديع اللفظي وتعبيراته، لذا فإن البحث عن سمات الأدب الصوفي يجب ألا تنفصل عن الأدب في المرحلة التي تتم دراسة الأدب فيها، لاستقاء سمات الأسلوب الأدبي من سمات المرحلة التي ينشأ الشاعر فيها. وهو ما يتناقص البحث فيه في أيامنا، فقصيدة النثر فيها ملامح صوفية، وقصيدة التفعيلة ضمت شعراء صوفيين لكن الاتكاء دائماً على الإرث الصوفي أو اتباعية شعراء الصوفية المحدثين على ما جاء به قبلهم من الشعر الصوفي والأدب وعدم محاولة تجاوزه فنياً ومعنوياً ورمزياً جعل البحث من المختصين يتناقص فيما يقوله هؤلاء الشعراء وإن كان هناك الكثير منهم مازالوا بيننا بصوفيتهم وروحانيتهم العالية.