«من صوب سورية الجنوب»
| حسن م. يوسف
في نحو الساعة السابعة من صباح أمس الأول الجمعة أفقت وقد علق في ذهني البيت الأول من قصيدة سعيد عقل، التي أنشدتها فيروزنا بألحان الأخوين رحباني:«نسّمت من صوب سورية الجنوب قلت هلّ المشتهى وافى الحبيبُ».
صحيح أن تكرار أغنية حبيبة القلب فيروز، في الرأس، أقل وطأة من تكرار أغاني سواها، إلا أنني أعتبر التكرار ضرباً من الموت في الحياة، وقد سبق لي أن عانيت من هذه الحالة مع أغنيات أخرى لمطربين آخرين لا يرقون إلى كعب فيروزنا، والحق أنني عانيت من تلك الحالة ما جعلني أستشير طبيباً تربطني به صحبة قديمة، وقد أبلغني ذلك الطبيب أن الأغاني التي تعلق بالذهن تسمّى «ديدان الدماغ» أو «ديدان الأذن»، وكتب لي وصفة أعطت نتائج طيبة في الماضي، إلا أن وصفة ذلك الطبيب لم تنفع هذه المرة، فقد استمعت للأغنية بكاملها كما نصحني، وقرأت كلماتها، وأجريت تعديلات على الكلمات، وتخيلت نهاية الأغنية، وغنيت المقطع الأخير منها في سري، لكنني، وياللعجب لم أتمكن من كسر حلقة تكرارها في رأسي، وقد استمر عنائي من ديدان الدماغ هذه لما بعد الواحدة ظهراً، ثم توقف التكرار فجأة عندما قرأت على الفيس بوك نبأ رحيل الأستاذ عمران الزعبي!
صحيح أنني أعرف الراحل الكبير عمران الزعبي قبل أن يصبح وزيراً للإعلام، وأكنّ له الكثير من المودة والتقدير، غير أني لا أدعي شرف صداقة الرجل، لذا فوجئت عندما نزلت دمعتي عقب سماع خبر رحيله، والحق أن حزني عليه كان أقرب إلى القلب منه إلى العقل، كما لو أن خسارةً شخصية قد ألمت بي.
لم أكن بحاجة لتفكير كثير كي أعرف سبب شعوري الحار بالخسارة، فعمران الزعبي لم يكن مجرد مشتغل بالسياسة بل كان رجلاً مبدئياً، والرجل المبدئي هو الذي يبقى عند القناعات التي اختارها في بداية وعيه ويظل ملتزماً بها حتى آخر حياته.
تعلمون أن «المبدأ» مشتق من الفعل بدأ يبدأ، لذا يقال إن المبدأ هو «فكر أساسي تبنى عليه أفكار فرعية»، فمن فطرة الإنسان في مقتبل حياته أن يبحث عن الخير والجمال والحق، والمبدأ هو نقطة الفكر الابتدائية التي يتوصل إليها المرء حول واقعه ومستقبله، في ضوء خبراته الحياتية والمعرفية ومقدرته على التمييز بين الصواب والخطأ.
من طبيعة الأمور أن يخضع المرء مبدأه للتطوير وأنا أحترم من يطورون مبادئهم، لكن الحرب الإجرامية التي شنتها الفاشية العالمية بالتعاون مع الفاشية المحلية على الدولة السورية، جعلتني أحترم من يتمسكون بالمبدأ أكثر، وخاصة بعد أن شهدنا خلال الأعوام الماضية حالات نكوص مفجعة. فكثير ممن ولدوا في حضن الدولة ورضعوا من حليبها وتنعموا بعطاءاتها وتعلموا على حسابها وصار لحم أكتافهم من خيرها، تحولوا إلى خناجر في ظهرها ورماح وسيوف في خاصرتها! وبعض من رفعوا مظلات فكرية عالية بعرض الكون، رأيناهم ينكصون نكوصاً مخزياً إلى الطائفة والقبيلة والعشيرة والعائلة! حيث بات القابض على مبدئه مثل عمران الزعبي كالقابض على الجمر!
لقد كان عمران الزعبي رجلاً بحق أدار ظهره للطائفة والقبيلة والعشيرة والعائلة وأعلن موالاته للوطن في زمن صعب باع فيه أدعياء الرجولة كبرياءهم للغريب.
الأستاذ القانوني الإعلامي عمران الزعبي، فليكن ذكرك مؤبداً.