الأقوى بين المشاعر
| د. اسكندر لوقـا
كالمسافر الذي يبتعد عن شاطئ الوطن، رويداً رويداً ولا ينفك ينظر إلى الوراء، يبقى المغترب عن وطنه تشدّه ذكرياته إلى رصيف البحر حيث كان الوداع ذات يوم.
حنين المغترب إلى أرض الوطن هو الأقوى بين المشاعر كافة مهما ترافقت هذه المشاعر مع تأثير الأمنيات التي تحققت، سواء المتعلقة منها بالمال أم بالمنصب. ومع أن الاغتراب هو، في نهاية المطاف، انسلاخ – بنسبة ما– عن الأرض والأسرة والتاريخ، فإن مشاعر الحنين إلى الدفء والثقافة والتقاليد، تبقى شعاراً مرافقاً دائماً لنزوع الإنسان كي يحقق ذاته في بلوغ غايته من الاغتراب.
إن آلافاً من الأمثلة تؤكد مصداقية القول إن المغترب هو، بشكل أو بآخر، مسافر سيبقى يذوب شوقاً لرؤية تراب وطنه من جديد ولو في آخر لحظات عمره. والبعض من المغتربين، عندما تلقاهم، يقولون لك: إن المغترب، البعيد عن أرض وطنه، كطائر دائم البحث عن عشه، حيث ذاق طعم الدفء وهو تحت جناحي أمه للمرة الأولى. إن قولاً كهذا يجعلك تشارك المغترب مشاعره في حال أدركت كم مؤلم أن يعيش المرء حياته، لسبب من الأسباب، حياة المسافر المتنقل من مكان إلى آخر، سواء استقر فيه نهائياً أم بقي يتنقل بين الأماكن بعيداً عن أرض وطنه.
إن الاغتراب حالة إنسانية – إن صح التشبيه – يصعب على المرء أن يحدد مقدار شدّة وقعها على نفس صاحبها وإن تكن قدرته على تلمّس أبعادها لديه واردة في سياق مشاركته إياها في تقييم تبعات الاغتراب في الحياة.
إن صفحات الكتب التي قرأنا فيها عن الاغتراب ونحن صغار على مقاعد الدراسة، لا تزال عالقة في أذهاننا. ما زالت أسماء الأدباء المغتربين عن الوطن العربي، حاضرة أمامنا، وكل من هؤلاء يجسد مشاعر الاغتراب بأسلوبه وهي تصب جميعاً في خانة الحنين إلى تراب الوطن. ومنهم، على سبيل المثال لا الحصر: أمين الريحاني، ميخائيل نعيمة، إيليا أبو ماضي، نسيب عريضة، الياس فرحات، نظير زيتون، خليل مطران، وآخرون وآخرون.
أجل هؤلاء وأمثالهم من المغتربين عن وطننا كانوا الرسل في الوقت ذاته وهم يحملون قناديل مضيئة في تاريخنا إلى عالم ما وراء البحار والجبال.