في ذلك الشتاء القارس خير ما يقرأ «ما وراء الشتاء» … توضيح فكرة اللجوء غير الشرعي عبر القارات والمعاناة المريرة التي يتعرض لها اللاجئون
| هبة اللـه الغلاييني
أول ما قرأت من أدب الروائية (ايزابيل الليندي) هو رواية (باولا) التي تقص فيها حياة ابنتها الوحيدة ووفاتها، فكان فيها من الوصف والمشاعر الصادقة من قلب أم فجعت بابنتها، ما جعلني أبحث عن أدبها ورواياتها، فسرعان ما قرأت أعمالها تباعاً(بيت الأرواح)، (ابنة الحظ)، (أناييس روحي)، (ايفالونا)، (جزيرة تحت البحر)، (العاشق الياباني)…… وغيرها. حتى إنني انتظر روايتها كل عام بفارغ الصبر.
ولدت ايزابيل الليندي في (بيرو) في الثاني من آب 1942، حصلت على العديد من الجوائز الأدبية المهمة، وهي من الأسماء المرشحة دائماً للحصول على جائزة نوبل.
تصنف رواياتها في إطار الواقعية السحرية، وتنشط في مجال حقوق المرأة والتحرر العالمي.
تم تحويل روايتين من رواياتها إلى فيلمين.
تمتلك ايزابيل تأثيراً قوياً في الأدب الأميركي اللاتيني، إضافة إلى تأثيرها كامرأة نسوية، وغالباً ما تقارن أعمالها بأعمال غابرييل غارسيا ماركيز الروائي الكولومبي الشهير.
يعتبر أسلوبها مميزاً حيث تمزج بين الحياة الخاصة لشخصياتها ومظهرهم، وآرائهم السياسية، ويلاحظ تغربها الطويل عن تشيلي في جميع كتاباتها.
تختلف رواية ( ما وراء الشتاء ) عن رواياتها السابقة والتي كانت تسجل فيها فترات تاريخية مهمة في أميركا اللاتينية، بأنها رواية معاصرة، تدور أحداثها في بروكلين بمدينة ( نيويورك).
ثلاث شخصيات في هذه الرواية تدور حولها الأحداث: رجل وامرأتان. ريتشارد، لوثيا، ايفيلين.
(لوثيا) هي امرأة من مدينة سنتياغو في ( تشيلي)، تحصل على عقد أستاذة زائرة لمدة ستة أشهر في مدينة نيويورك.
هي في الثانية والستين من عمرها، لكنها ما زالت تحمل روح الشباب والحماس وحس المغامرة. جاذبيتها تكمن في مرونة حركاتها، كما لديها شيء من اللطافة غير المستحقة، لأنها لم ترعها مطلقا، فهي شرهة وكسولة مثل محظية شرقية. كان جسدها يهرم، أما في أعماقها فما زالت مراهقتها لم تتأثر، غير أنها لا تستطيع أن تتخيل العجوز التي ستصير إليها.
أمها لينا، وأخوها إنريكي، كانا دعامتي طفولة لوثيا ماراث قبل أن ينتزع الانقلاب العسكري أخاها. أما أبوها فإنه قد مات في حادث سير وهي صغيرة جدا، وهو بالنسبة لها لم يكن موجودا قط. كانت في التاسعة عشرة من عمرها عندما بدأت حياتها كلاجئة. استقرت فترة في فنزويلا، وتعرفت هناك إلى شاب وسيم مهجر مثلها، ومن اليسار المتطرف ووقعت في حبه، ، ثم هاجرا معا إلى كندا، وهناك تركته بصمت بسبب مرضه النفسي ولا مبالاته. وعادت إلى تشيلي بعد 17 عاما من المنفى، وهناك تزوجت من كارلوس أورثوا المحامي الشهير، وأنجبت منه ابنةً (دانييلا).
أما (ريتشارد) فهو في نحو الستين من عمره، رجل متوسط القامة، لديه ما يكفي من الشعر، وأسنان سليمة، وعينان رماديتان أو خضروان حسب انعكاس الضوء على نظارته. وهو يعيش وحيدا مع أربع قطط، تبناها من جمعية حماية الحيوان من أجل القضاء على الفئران في المبنى القديم الذي يسكنه. كان ريتشارد قد دفع ثمناً بخساً مقابل بيته الكبير القديم المشيد بالآجر البني في بروكلين، مثل مئات الأبنية الأخرى في الحي، لأنه اشتراه من صديقه المفضل، وهو أرجنتيني ورث بصورة مفاجئة ثروة كبيرة وذهب إلى بلاده كي يدير هذه الثروة. كان الحي قبل أن يسكن فيه ميدان إجرام، ومخدرات وعصابات، ولا أحد يجرؤ على التجول فيه ليلا، ولكن في الفترة التي جاء بها ريتشارد تحول إلى واحدة من أكثر المناطق المرغوبة في البلاد.
عاش ريتشارد ماضياً أليماً، حيث سبب الموت لطفلته (بيبي) وهو في حالة سكر، ثم فقدان زوجته (آنيتا) بعد إصابتها بمرض عقلي بسبب حزنها على فقدان ولديها. وعاش متآلفا مع ألمه، ومع مرضه (الحموضة المعوية)، غير أن صديقه (هوراسيو) استطاع بعد معاناة أن يخرجه من الظلام إلى النور، من خلال تشجيعه على العودة إلى ممارسة مهنة التدريس في الجامعة.
كان لقاء ريتشارد بـ(لوثيا) في أحد اللقاءات الاجتماعية في الجامعة، بدت له جذابة جداً بثوبها الأسود، وعقدها الفضي، وخصل شعرها الملونة، وعرض عليها أن تستأجر شقة مستقلة في بيته وبأجر معقول جداً.
أما الشخصية الثالثة في الرواية فهي (ايفلين). وهي شابة قصيرة ونحيلة من (غواتيمالا)، لها وجه حساس مثل يديها وبشرة بلون الخشب الفاتح وشعر أسود معقود وراء عنقها، حيث تبدو وكأنها هندية أميركية.
عاشت ايفلين طفولة معذبة شهدت فيه مقتل أخيها أمام عينيها… كما تعرضت لاغتصاب مهين جعل لسانها ينعقد، وتصاب بعاهة التلعثم. هاجرت في ظروف صعبة وقاسية ومريرة من غواتيمالا إلى الولايات المتحدة الأميركية، وعملت في منزل الزوجين ليروي، ترعى طفلهما الوحيد، من غير أوراق ثبوتية.
التقت (ايفلين) بـ(ريتشارد ) عندما صدمها في أحد أيام الثلج والصقيع وهو مسرع جداً لإنقاذ إحدى قطاطه. ولجأت إلى منزله لاحقا بعد أن أعطاها عنوانه.
وفي ليلة شتاء قارسة، صادف اجتماع الثلاثي معا في منزل (ريتشارد) حيث كانت بروكلين تمر بعاصفة ثلجية. في هذه الليلة تشابكت حيوات لوثيا ماراث، وريتشارد بوماستير، وايفلين أورتيغا، بطريقة لا يمكن الرجوع عنها.
أخذت ايفلين تقص عليهما طفولتها القاسية المعذبة ومقتل أخويها وهروب والدتها إلى أميركا، ثم لجوءها اللاشرعي للولايات المتحدة الأميركية، ثم صرحت بعثورها على جثة في السيارة التي سرقتها من مخدومها.
وجدت جثة (كاترين براون)، التي تعمل عند عائلة ليروي، كمعالجة فيزيائية لابنهما المريض، في الصندوق الخلفي للسيارة، وبدأت الحبكة الفعلية للرواية عندما اخذ الثلاثة مجتمعين قرار التخلص من الجثة.
ووسط عاصفة ثلجية انطلقوا في رحلة خطرة من بروكلين إلى بحيرة خارج المدينة، وتخلصوا من الجثة بصعوبة. رحلة غيرت مصائر أبطال الرواية إلى الأبد..
خلال هذه الفترة نما حب متأجج بين (لوثيا) و(ريتشارد) تصف فيه الكاتبة فيه كعادتها لقاءاتهما الحسية والعاطفية بجرأة كالعادة. حيث تعلق ريتشارد بـلوثيا، بعد حرمان عاطفي مديد.
وتتوالى أحداث الرواية بين سرد للماضي وصولا للحاضر عبر ترتيب ممنهج للكاتبة، لتكشف في نهاية الرواية عن هوية القاتل بعد أن تم الاشتباه في عدة شخصيات.
في كل رواية تختار الليندي حقبة زمنية من الماضي وتسلط الضوء عليها، وتحمل فيها فكرة اجتماعية أو سياسية مهمة. في هذه الرواية أرادت أن توضح فكرة اللجوء غير الشرعي عبر القارات، والمعاناة المريرة التي يتعرض لها اللاجئون، وكذلك تروي بدقة أخبار المهربين وعصابات المخدرات، والتعذيب الذي يتعرض له ضحايا التهريب من بلد لآخر.
تنعكس معاناة (ايزابيل الليندي)، وألمها الدفين، وتجاربها مع الحروب، والهجرة، وإثبات الهوية في جميع رواياتها، بالإضافة إلى تجاربها الحسية والعاطفية والتي تتدفق جملاً شيقة تصف مغامرات بحميمية واضحة.
تقول (الليندي) في نهاية المطاف:
(ولدت فكرة هذه الرواية يوم عيد الميلاد، في بيت من آجر قاتم في بروكلين، حيث التقينا كجماعة صغيرة لتناول فنجان القهوة الصباحي الأول: ابني نيكولاس، وكنتي لوري، وأختها كريستين بارا، وورد شوماكير وفيفيايانا فليشر. سألني أحدهم عما سأكتبه في الثامن من كانون الثاني الآخذ في الاقتراب، وهو اليوم الذي بدأت به جميع كتبي على امتداد خمسة وثلاثين عاماً. ولأنني لم أكن قد فكرت في أي شيء، بدؤوا بإلقاء أفكار، وهكذا تشكل هيكل هذا الكتاب.
وأضاف المترجم السوري العملاق (صالح علماني)، من إبداعه الشيء الكثير، من ترابط الجمل، والسردة المحكمة.
وأنا مع دخول شهر كانون الثاني 2019 أتساءل عما تعده لنا الكاتبة من رواية جديدة فيها من الإثارة والحب والمغامرات ما يملؤنا أملاً وشغفاً بالحياة.