ابن عربي، ابن العربي، لا يهم كيف يتم لفظه، أو الصورة التي يكتب بها، هو الشيخ الأكبر، وهو الشيخ محيي الدين صاحب العمامة التي تظلل الإنسان، وتخفي علماً لا يضاهى ولا يجارى، وتحتوي طهراً قلّ أن نجد له مثيلاً في عالمنا العربي، بل في العالم أجمع، وليس غريباً أن يكون الشيخ محيي الدين أحد أهم المؤثرين في الحضارة العالمية والإنسانية، ونستثني من ذلك حضارتنا العربية والإسلامية التي ما تزال مشغولة في قراءة فتوحاته المكية، وفي تفسيرها لرؤية ما إذا كان الشيخ مؤمناً أو ملحداً يقول بالتجسيد أم بالتنزيه، يقول بالنص أو فلسفته، ولم يقف كثيرون من المؤثرين وأصحاب الرأي عند الباعث الحقيقي عند ابن عربي وابن رشد، وهو الحب والمعرفة، وإن شئنا أن نقف عند تسطح آرائنا وقراءاتنا وعجزنا عن التفسير يكفي أن نقرأ بعضاً من ترجمة كتبها أحد القدامى عن ابن عربي «هو ذو مسلكين في الحياة: رصين تقي أمام الناس، مرح متساهل أمام أنداده من أجل ذلك عدّه قوم في الأولياء وعدّه آخرون في الملاحدة وشطح ابن عربي أمام العامة فقال: أنتم وما تعبدون تحت قدمي هذه! وفهم العامة جملته على ظاهرها فقتلوه. وباطن الجملة أن الناس يعبدون المال»!
جملة تقتل عالماً وفيلسوفاً وشاعراً!
أي حضارة تقتل مفكرا لجملة إن كان لظاهر أو باطن!
قائل الجملة إن قيلت ليس شخصاً عادياً، ولا يؤخذ كلامه بظاهره، ولا بد من تقليب الكلام قبل الحكم، وخاصة أن العرب أولوا التأويل عناية كبرى وصنفوا في الأحاجي والألغاز بغض النظر عن قائلها، فما بالنا بجملة يقولها شيخ وفيلسوف وشاعر؟ من باب أولى أن يتم النظر إلى الكلام من زوايا أخرى ومتعددة ومتأنية، لكنها الرغبة في القتل، والرغبة في طمس المعرفة وفي قتل الحقيقة هي التي دفعت إلى سدّ كوّة النور في الفكر الفلسفي الإسلامي لإنهاء مرحلة مهمة للغاية في حياتنا الفكرية التي كانت قد وصلت إلى الاختمار والحب، لتنتقل إلى مرحلة أعلى وأسمى، لكن القتل كان بالمرصاد، والغريب أن بذرة الحب لم تنهض في وجه القاتلين، وإلى يومنا نجد شانئا يتحدث عن الشيخ الأكبر بكلام ظاهره وباطنه مسوّغ قتله!!
ابن عربي أحب الناس، وأحب لهم حياة السمو، فوضع معبودهم المال وتوابعه تحت قدمه، لكن المال ثبّت قدم ابن عربي فوق المال، ونصّب نفسه مكان الحكم الأكبر وقضى بقتله! ولو وعى المحيطون بابن عربي لعمق ما قال لقاموا إليه شاكرين، وتحولت الحياة العربية فكرياً وفلسفياً وصوفية، ولكن أنّى أن يكون ذلك في مجتمع جاهل يحرص على الجهل أكثر من حرصه على أي شيء آخر..!
على الرغم من حقد الحاقدين، الشام احتضنت شيخها، وأعطته قبة، وصانت عمامته من أن يطمرها المال والجهل والموت والحقد، وعند قاسيونها في محل القلب والفكر منها كان مرقد الشيخ الأكبر الذي أراد أن يحيي الفكر في الدين، فصار مقاماً وملاذاً في دمشق الشام التي أبقته على حبه ويقينه، ولم تسمح للحياة أن تغطيه بغبار الحاقدين والآثمين، ومنذ ذلك اليوم تحتفي الشام بعمامته التي أهدته روعتها ونعومتها وسلاستها، وهو ينتشي كلما جاء النداء إلى جوار رخام مقامه، ولا أقول قبره، فهو يقيم في مقامه، يلوذ به العاشقون والمتصوفة، يستلهم حياته المفكرون والفلاسفة ليكون النبع الثر الذي لا يتوقف عن التدفاق كلما طلبت شام من نبعه
يفتح عينيه ويطمر حسن شام بين جوانحه ويغفي
يعود إلى مقامه حيث يقيم.. وينسى القوم قاتليه
وحدها الشام حفظت حكايته ومكانته وحبه، ونسي الجميع جريمة الفكر، يرددون قتل ابن جبير، ولا يذكرون قتل ابن عربي، وكأن القتل مسموح في حال من الأحوال!!
مرضي من مريضة الأجفان
عللاني بذكرها عللاني
بأبي طفلة لعوب تهادى
من بنات الخدور بين الغواني
بأبي ثم بي غزال ربيب
يرتعي بين أضلعي في أمان
الهوى راشني بغير سهام
الهوى قاتلي بغير سنان
والهوى بيننا يسوق حديثاً
طيباً مطرباً بغير لسان
كذب الشاعر الذي قال قبلي
وبأحجار عقله قد رماني
أيها المنكح الثريا سهيلاً
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت
وسهيل إذا استقل يماني
ضمّن ابن عربي شعره شعراً سابقاً، أمن عبث فعل هذا؟ هي شامية وللشام المكانة الأعلى والأسمى في روحه، والتوحد كان مع الشامية والشام إذا ما استقلت، وكأن حبه دفعه إلى هذا لإدراك قبل أن ينهض الجهل من غفوته ليطمر نور العلم عند ابن عربي ليقول: علمي شآمي وإن جئت من الأندلس والمغرب، وطفت الأمصار والحجاز كل البقاع، إلا أن الشام صاحبة النور الأبهى والأرقى التي ستحتوي جسد قتيل الهوى والفلسفة والعلم والدين هي التي أهوى وأتعشق..
قتلته الدنيا بدنياها لتطمس نوره
قتله المال والكناية عن أنه معبود
والأمة التي تفاخر ببلاغتها وكناياتها أغمضت الطرف عن كنايته!
كان مقتولاً بالحب بغير سنان وبغير سهام، لكنهم أرادوه قتيلاً برأيه وعلمه وبدم حار تشربه الأرض
افتدى الحب بأبيه مرة وأسهب، لكنه بيقينه العالي أدرك أنه الفداء بنفسه، فثنّى بأبيه وبنفسه، وكان نذره مقبولاً، فذهب الجهل به وبعلمه وبرأيه! أراد خلوداً لفكرة الربوبية، وإلغاء لفكرة المعبود الآني، لكنه دفع الثمن غالياً.
«اعلم يا فصيحاً لا يتكلم وسائلاً عما يعلم، إني لما وصلت إليه من الإيمان ونزلت عليه في حضرة الإحسان أنزلني في حرمه، وأطلعني على حرمه، وقال:
إنما أكثرت مناسك غربة في تماسك، فإن لم تجدني هنا وجدتني هنا، وإن احتجبت عنك في جمع، تجليت لك في المنى، مع أني قد أعلمتك في غير ما موقف من مواقفك، وأشرت به إليك في غير مرة في بعض لطائفك إني وإن احتجبت فهو تجل لا يعرفه كل عارف إلا من أحاط علماً بما أحطت به من المعارف، ألا تراني أتجلى لهم في القيامة في غير الصورة التي يعرفونها، والعلامة فينكرون ربوبيتي ومنها يتعوذون، وبها يعوذون ولكن لا يشعرون».
هذا النص من فتوحاته المكية يظهر لكل عاقل متدبر عمق ابن عربي وعمق نظرته وفلسفته، لذا كان ابن عربي بشهادة الدارسين المنصفين قمة الفكر العربي الفلسفي وصاحب النظرة الفلسفية الأبعد غوراً بعد جلال الدين الرومي كما يشير الدكتور عمر فروخ في تاريخ الأدب العربي، فهو لا يقول كلاماً معاداً مكروراً يقوله الآخرون وإنما يقول عمق فكر إسلامي رآه جامداً أمامه فحركه وكانت النتيجة كارثية على هذا الفكر الذي فقد أهم رؤية فلسفية إسلامية يمكن لها أن تقدم العلاقة بين الخالق والمخلوق، الفيلسوف الذي رأى وفق المعتقدات الإسلامية ضرورة التمييز بين الخالق والمعبود! فالعبادة البشرية مختلفة تماماً، وتنطلق من حديثه صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فمن كانت هجرته إلى مال يصيبه فهجرته إلى ما هاجر إليه، أو كما قال: أليست الهجرة عن القصد؟ ألا يعد القصد نوعاً من التعبد لشيء ما؟!
من هنا جاءت كلمته عن المعبود وهو المال ظاهراً وباطناً، ولم تكن بحاجة إلى تفسير أو تأويل، لأن ابن عربي يحب الإنسان، ويتجلى الخالق في روحه حدد المعبود وهو المال، لكن المال انتفض في وجهه ليقتله باسم الدين والعقيدة والكفر!!
وفي فتوحاته المكية يشترط ابن عربي المعرفة، ويظهر أنه ليس كل عارف يمكن أن يكون عارفاً، فالعارف بحاجة إلى صلة، والصلة بحاجة إلى تطهر، وهذا يتبعه ويكون نتيجة عنه وله التجلي، التجلي الذي لا ينتظر يوم البعث، فالتجلي صفة العارف المتصوف المنعتق المرتحل إلى معرفة ينهلها من نبع لا يدانيه نبع، وفي رحلته عندما أدرك أنها شآمية، لم يجد طعماً لحياة قبلها، ولم يجد رغبة في استزادة بعدها، التقى فيها بنبع الإيمان المنسكب عن كهوفها ومغاورها، فانزرع فيها وداس المعبود بقدمه لتضمه شام إليها، وتصنع له عمامة ما مثل طهرها وشكلها، وترفق هذه العمامة بمقام يصدح بأن الله أكبر وبأن ابن عربي والعاشق الإلهي انزرع في يقينه وأحرق مراكبه ليرتحل إلى محبوبه وفيه.