أول الزاهدين المشهورين، وأول من خطّ سطراً في التقشف والابتعاد عن الدنيا وزخرفها وبهارجها، ومن أوائل الذين قرنوا القول بالعمل، فتعلم وسافر وطلب العلم، وصنّف، وعلّم طلابه، وغزا في سبيل الله وقومه، وقاتل بشجاعة دفاعاً عن أمته وثغورها.. فهو واحد من رجال القرن الثاني الهجري غادر الدنيا قبل انتهائه بعقدين، وعبد الله بن المبارك شخصية تستحق أن يقتدي الإنسان بها، وأن يستعيد حياتها، لأن حياته تعطينا الكثير الكثير من معاني الحق والحب البالغة الأثر.
قارئ سيرته يلمح أمراً غاية في الأهمية والإشكالية، فهو لأم خوارزمية وأب تركي، ومن أم ميسورة حققت له بحبوحة، ما جعله يحيا حياة فيها الكثير من الترف واللهو والشراب والغناء، وهذا أقف عنده لأن كثيرين ممن يتحدثون في الأنساب يحاولون التشكيك في انتماء من كانت أصوله غير عربية وغير نقية كما يتهيأ لهم، ولو آمنا بنقاء الأنساب! ولو انسقنا وراءهم في مخالفة قول الرسول صلى الله عليه وسلم «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى» فالفضل بالتقوى لا بالنسب، فهل يعد هؤلاء المدافعون والمهاجمون أن انتماء الهوية البسيط- إن كان صحيحاً- أعلى من التقوى وأبعد من أثر الشخص؟ وهنا أولى صفات الحب عند ابن المبارك الذي كان مخلصاً لثقافته العربية والإسلامية إخلاصاً غير محدود في كل حياته، فكان العلم عربياً، وكان الشعر عربياً، ويأتي بعد ذلك من يستثير الغريزة ليحاول أن يعيده إلى أصوله، ويقول لأجداده: خذوه لا نريده فهو ليس لنا وهو شعوبي!! أما وجد من يخدم انتماءه الفكري أكثر مما يخدم انتماءه بالدم والنسب؟
أحب ابن المبارك ثقافته العربية وعقيدته، فقاتل في صفوف العرب، وانتصف لهم من الخصوم، وعندما هبّ للمبارزة أوصى إخوانه العرب الذين تحلقوا حوله في حال استشهد ولم يعد من مبارزة أقوام أعاجم في طرسوس، كان من المفترض أن يقاتل العرب إلى جوارهم لو كان شعوبياً!!
أما القضية الثانية، فهي ميله إلى اللهو والشراب والغناء قبل توبته، وقبل انحيازه إلى الزهد والتقشف ، وهذه القصة قد تكون صحيحة، ويستشهد المؤرخون بقوله:
ألم يأنِ لي منك أن ترحما وتعصي العواذل واللوّما
وبعدها ترك ابن المبارك كل شيء واعتمد الزهد والتدين والصلاح، هب أن هذه القصة حقيقية وليست من خيال القصّاص، فهي علامة على حب الإنسان الآخر، وهذه الصفة هي الصفة الثانية من صفات الحب عند ابن المبارك، أشرت إلى احتمالية خيال القصاص، لأنني في قراءتي الطويلة، لم أعثر على زاهد أو متصوف عربي أو غير عربي، وإلا زينت حياته بمرحلة أولى فيها اللهو والشراب، وربما أكثر من ذلك، ابتداء من رابعة العدوية وصولاً إلى أحدث متصوف يحيا بيننا، وهذا ما يعزز لدي احتمال لعب خيال القصاص في رواية حكاياهم، إذ لا يعقل أن يكون الجسر الذي يمر عليه الزهّاد دوماً مليئاً باللهو والمعاصي، وكأن الكاتبين يريدون إظهار مكانة الزاهد أو المتصوف في محاربة النفس والهوى، ما يزيد مقداره عند القارئ وفي نفوس الذين يريدون استخلاص العبر، واتباع سبيله في الزهد، علماً أن الزهد الذي سنقف عنده عند ابن المبارك هو أسلوب حياة، ويوجد في حياتنا وبيننا من يفعل فعله وزيادة، دون أن يتخلى عن ثروته وتجارته، مع أن المغريات في حياتنا تفوق المغريات تلك التي عاش فيها ابن مبارك، الحب عند ابن المبارك جعله ينحاز إلى الإنسان في مواجهة الطغيان والسلاطين والملوك، وجعله يخصص قسماً كبيراً من تجارته للفقراء والمحتاجين، وهو صاحب التجارة الكبيرة كما يشير المؤرخون، فإن كان لاهياً حقيقة، إلا أن الحب عنده جعله يتخلى عن رغائبه ليحقق للفقير حياة كريمة بدل أن يتمتع ببهارج الدنيا، وجعل متعته الحقيقية في العلم والتحصيل والشعر والسفر، فقد كان كما يشير الإمام الذهبي سفّاراً، إنه الحب للآخر وفي الآخر، وقد اكتشف لنفسه طرائق يحصل فيها على الحب والرضا، وذلك من خلال الرضا المجتمعي بمساعدة من يحتاج مساعدة.
أما الصفة الثالثة للحب عند ابن المبارك، فهي حبه للعلم، وهو بذلك أحب ذاته، وتذكر الكتب بعلمية ومنطقية أن ابن المبارك لم ينشأ على العلم، ولم تقل الكتب كما قالت عن غيره بأنه كان مكباً على العلم منذ نعومة أظفاره، فقد أخذته الحياة العادية، وظل منغمساً في اللهو والشراب، ومن ثم أثمرت زهرة حب العلم عنده، فالتفت إلى العلم وطلبه بعد أن جاوز العشرين من سني حياته، واستطاع بالحب أن يحرق المراحل العديدة، وأن يلغي تقصيره في سنواته العشرين، ليصل إلى ما لم يصل إليه أقرانه الذين بدؤوا حياتهم بالعلم، وصاروا يرقبونه ويتابعون حركاته ويغبطونه على مرتبته في العلم والصلاح، وحب العلم أعطى ابن المبارك فجعله يصنف ويعيش باحترام وتوقير ليصل إلينا بمصنفاته وشعره، وها نحن بعد قرون متطاولة نستحضر شعره وأدبه وأخلاقه.
أما الصفة التي كسبها من الزهد والتصوف أو أكسبها للتصوف هي الحب للناس والشعور بشعورهم، وهذه الصفة أعلى ما يمكن أن يدخل الإنسان في الأنسنة، فالشعور بالآخر وآلامه ومشكلاته أمر صعب وخطير وبعيد المنال، ولا يمكن أن يصل الأديب إلى تصويره ونقله إلينا إلا من خلال فضح الفساد والاستغلال ومواجهة السلطان والأعيان، وهذا ما فعله ابن المبارك الذي أحب الناس فعرّض بكل ما يمكن أن يسرق بهجة الإنسان، وكانت العبر التي ساقها غاية في التعبير.
ألا قف بدار المترفين وقل لهم ألا أين أرباب المدائن والقرى؟
وأين الملوك الناعمون بغبطة ومن عانق البيض الرعابيب كالدمى؟
فلو نطقت دار لقالت ديارهم لك الخبر صاروا للتراب وللبلى
وأنهاهم كر النهار وليله فلم يبق للأيام كهل ولا فتى
وها هو يقول:
الموت بحر طافح موجه يذهب فيه جبله السابح
يا نفس إني قائل فاسمعي مقالة من مشفق ناصح
لا ينفع الإنسان في قبره إلا التقى والعمل الصالح
ولا ينال الفوز من دهره إلا فتى ميزانه راجح
وفي مكان آخر يشير إلى العلم، وهل مثل العلم ينشر الحب؟
يا طالب العلم بادر بالوعا وهاجر النوم واهجر الشبعا
يا أيها الناس أنتم عشب يحصده الموت كلما طلعا
لا يحصد المرء عند فاقته إلا الذي في حياته زرعا
إنه إدراك النهاية الحتمية، وهو أدعى شيء للحب والزهد بالدنيا وما فيها، وما يمكن أن يغري فيها شيخاً جليلاً كان ابن المبارك، لم يكن حاكماً، ولم يكن تاجراً، ولكنه كان محباً مليئاً بالحب والعاطفة للآخر الإنسان، فاختار أن يحيا حياة سرمدية بالحب للآخر، وبالإحساس به، ولم يشأ أن يحيا وحده، الكتب تذكر أنه كان صاحب تجارة قبل علمه ومشيخته، ولم يحز على ماله وتجارته من مشيخته، كان من أسرة ميسورة فترك حياة النعيم ليحيا بالناس ومعهم، ولم يكسب على حساب الناس وعقيدته! لم يؤسس زاوية، ولم يتعهد أفواج الحج بنجمة أو بعشر نجوم، ولم ينحز سياسياً ضد العروبة ليحصل على المال والذهب!
كم من مشايخنا وعلمائنا، اليوم يملكون أضعاف ما يملك ابن المبارك، وحصلوا على ما يملكون من تجارة الدين والزكاة التي تعهد إليهم، أو الحج الذي يتولونه، لكنهم لا يشبعون فقيراً، ولا يزوجون معسراً، ولا يشترون فراشاً لإنسان لا يملك حصيراً؟
من الطبيعي أن يفعل ابن المبارك ما فعل لأنه يملك الحب لذاته في الخلود والأبدية، فكان رسولاً للحب والإيثار!
ومن الطبيعي أن نصل إلى ما وصلنا إليه، لأن الذين يملكون زمام شرعنا اليوم لا يملكون الحب، وليسوا من أسر ميسورة!
سهل على من ملك وملك الحب أن يعطي لأنه لا يخاف النفاد!
صعب على من اقتنص وافتقد الحب أن يعطي لأنه يخشى النفاد!