يصادف مرور الأسبوع السادس على العملية التي ينفذها الجيش السوري في منطقة خفض التصعيد الرابعة التي تضم أرياف إدلب واللاذقية وحماة المتلاصقة، الذكرى الثامنة على مجزرة جسر الشغور في السادس من حزيران 2011 التي راح ضحيتها 120 شهيداً من مفرزة الأمن العسكري وقوات حفظ النظام بدعم لوجستي واستخباراتي تركي مباشر.
منذ ذلك اليوم كانت المرامي التركية واضحة لا لبس فيها، فقد أعطى اعتراض قوة المؤازرة المرسلة من قوات حفظ النظام إلى مفرزة جسر الشغور من قبل فصائل المعارضة في بلدة أورم الجوز، بتدبير الاستخبارات التركية، دليلاً قاطعاً على ما تسعى إليه أنقرة، كان ذلك سابقاً بشهرين للقاء الرئيس بشار الأسد الأخير مع وزير الخارجية التركي السابق أحمد داوود أوغلو في آب من العام نفسه وفيه أراد الأخير مقايضة مشاركة «الإخوان المسلمين» في السلطة مقابل عدم تكرار سيناريوهات شبيهة لما شهدته جسر الشغور، وبمعنى آخر كان يريد استنساخ سيناريو «مرج دابق» 1516 الذي كان قد مر عليه آنذاك 495 عاماً لكن على صهوة أحصنة الإيديولوجيا هذه المرة.
تعثر المشروع التركي آنذاك، لكنه استعاد بعضاً من آماله في تلاقيات حدثت أواخر آذار 2015 مع الرياض التي كانت قد أطلقت غزوها لليمن في تلك الآونة، لينتج عنها سيطرة «جيش الفتح» الوليد الشرعي لتلك التلاقيات على مدينة إدلب في أواخر آذار من العام نفسه، كانت تلك لحظة سياسية سعودية هوجاء تريد شراء الصمت التركي تجاه «عاصفة الحزم» أولى طحنات جيل الأحفاد الذي كان على وشك الإمساك بزمام السلطة في المملكة، في مقابل الانخراط في مشروع تركي كان ذا مرامٍ بعيدة المدى كما اتضحت في كتب المنظّر أحمد داوود أوغلو ومقالاته اللاحقة فيما بعد، ولو قدر لما كان مرسوماً له أن ينفذ لكانت السعودية بالتأكيد هي في مرتبة ثاني المتضررين بعد سورية مباشرة.
مثل التدخل العسكري الروسي في سورية أيلول من العام 2015 ضربة قاصمة للمشروع التركي وخطوة أولى لفكاك سعودي تركي لا رجعة فيه، والمؤكد أن أنقرة بنتيجة الصدمة المتحصلة كانت قد قررت للوهلة الأولى تحدي ذلك التدخل، أو أقله وضع العراقيل في مساراته التي سرعان ما توضحت معالمها، الأمر الذي ظهر في حادثة إسقاط طائرة السوخوي الروسية بعيد شهرين في خريف ذلك العام، لتلمس أنقرة فيما بعد هذا الحدث الأخير إن سياسة وضع الإصبع على الزناد في مواجهة «الدب» الروسي كانت تسرعاً غير محمود العواقب، لتنتج ردهات السياسة التركية في أعقاب ذلك تكتيكات ترمي إلى محاربة المشروع الروسي من الداخل كبديل لمواجهته من الخارج التي أنتجتها حالة اهتزاز الأعصاب فحسب.
الحالة السابقة أنتجت الكثير من المحطات كان أبرزها مسار أستانا ومناطق خفض التصعيد الأربعة وصولاً إلى اتفاق سوتشي في أيلول من العام الماضي، كان الظن التركي أن كل ما سبق خادم للمشروع أو هو تقدم لكن بوسائل أخرى، وكان التقدير أن عامل الوقت وسياسة شراء المزيد منه إنما يدفعان بالعجلة التركية قدماً إلى الأمام، وفي الغضون راحت أنقرة تبدي جدية في نياتها إتمام صفقة منظومة «إس 400» الروسية التي كانت تدرك أيما سيلان للعاب الروسي سوف يرافقها لاعتبارات تتعلق بقضايا وحسابات استراتيجية بالغة الحساسية بالنسبة لموسكو، وعبر هذه المناخات الزئبقية استطاعت أنقرة فرض سياسة غض البصر تجاه تفلتها من توافقات سوتشي وتلك السابقة لها كلها، وعندما انطلقت عمليات الجيش السوري في ريف حماة أواخر نيسان الماضي كان عداد الوقت يسجل 7 أشهر من ذاك التفلت، أجادت أنقرة في خلالها ممارسة الخداع الاستراتيجي المزدوج لكل من موسكو وواشنطن على حد سواء.
كان إطلاق عملية الجيش الأخيرة أواخر نيسان الماضي يمثل ميلاً روسياً يصب في اتجاه خلق فضاءات آمنة لأرياف اللاذقية وحماة ومعها مثيلة لها لقواعد روسية كانت تتعرض لتهديدات حقيقية تذكر بهجوم طائرات الدرون على قاعدة حميميم في كانون الثاني من العام الماضي، لكن بعد مرور ستة أسابيع على تلك العملية تبدو وكأنها قد خلفت وراءها كل مخرجات أستانا وتوافقات سوتشي أو أن مسار العمليات قد فرض تجاوزها، فموسكو وفق آخر مواقفها يوم الجمعة الماضي، كانت ترفض بشدة الطلب التركي الهادف إلى تثبيت وقف إطلاق النار وبأسرع وقت ممكن، واللافت أن ذلك جاء بعد 48 ساعة من تأكيد الرئيس التركي في أعقاب خروجه من صلاة العيد بأن التراجع عن صفقة الـ«إس 400» الروسية لم يعد وارداً في مؤشر يؤكد ريبة موسكو القائمة حول انجذاب «الفراشة» التركية إلى «الضوء» الروسي بما يكفي، أو هو تقوية لهذا الأخير لضمان أداء المهمة.
اليوم بات من المؤكد أن ثمة شرخ حاصل في ما بين المواقف الروسية وتلك التركية حول إدلب، ولا يخفف من عمق هذا الشرخ التصريحات التي يطلقها العديد من مسؤولي البلدين، وجميعها تهدف إلى الإيحاء بأن طريق اللاعودة لم يسلك بعد، أما التقاربات التي تحاول أن تسجلها تلك المواقف فلا تؤيدها وقائع الميدان، وأنقرة التي باتت تلعب الآن على المكشوف لم تعد قادرة على التلطي وراء جدران إنكار التدخل والدعم المباشر، وفي الآن ذاته لا تبدو موسكو وكأنها تعيش حالة استعداد لإظهار التراخي تجاه أنقرة التي تظهر تحدياً للروس في سابقة لم تحدث بهذا الوضوح منذ أن طويت حادثة إسقاط السوخوي الروسية في آب من العام 2016 إثر لقاء جمع بين الرئيسين التركي ونظيره الروسي.
ميدانياً تقول آخر التقارير إن الجيش تمكن من بسط سيطرته على قرية القصابية الاستراتيجية يوم الاثنين قبل الماضي، وهي أولى قرى ريف إدلب الجنوبي، وذاك تطور يمثل نقلة نوعية من الناحية العسكرية كونه يساعد في التأسيس لخط دفاع أول عن مناطق كفر نبوده وتل ملح وكفر هود المحررة في ريف حماة الشمالي، وما الهجوم المضاد الذي نفذته «هيئة تحرير الشام» انطلاقاً من «الأربعين» و «الزكاة» يوم الجمعة الماضي إلا تأكيد على أهمية الاختراق الذي حققه الجيش، وإن كان أيضاً يعني في منحاه السياسي فشل حال التجاذب الروسي التركي في التوصل إلى اتفاق يقضي بوقف سريع لإطلاق النار، وفي التقديرات فإن من المؤكد أن حالة التماهي التي توصلت إليها باقي الفصائل المعارضة مع «هيئة تحرير الشام» تحت راية الغزوة التي أطلق عليها اسم «المعتصم بالله المدني» وهو سعودي كان عضواً في الهيئة الشرعية لـ«هيئة تحرير الشام» قبيل أن يقتل في معارك كفر نبودة الأخيرة، تلك الحالة سوف تدفع بموسكو إلى زيادة دعمها لاندفاعة الجيش السوري نحو معاقل جبهة النصرة، وهذا يتوافق أيضاً مع كل المواقف الروسية التي تسجلها المحافل الدولية وآخرها عرقلة موسكو لقرار كان يراد تمريره في مجلس الأمن خاص بإدلب وفي تلك الجلسة كان نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين يقول: «إن جبهة النصرة يا سادة تسيطر اليوم على 99 بالمئة من إدلب بعد أن كانت تسيطر على 60 بالمئة منها في العام الماضي»، وهذا كله يهدف إلى إفهام أنقرة بعدم وجود نيات روسية تجاه منحها فرصه أخرى لتنفيذ اتفاق سوتشي، فما جرى هو تزايد سلطة النصرة في محيطها بدل تقلصها، وما من عاقل يمكن له أن يراهن على دور تركي جديد يقوم على دفع العجلة إلى الوراء.