أحسب أن عمر الخيانة لا يقل عن عمر البشر على هذه الأرض، على الرغم من ذلك يجمع الفلاسفة والمفكرون على عدم وجود تعريف واضح لها، فالراغب الأَصْفَهَاني الذي توفي قبل تسعمئة وأحد عشر عاماً يقول: (الخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السِّر)، ويرى المفكرون الغربيون أن «الخيانة هي نقض للعقد الاجتماعي». وتنظر كل الشرائع البشرية، إلى الخيانة بوصفها جرماً كبيراً، ويشدد الدين الإسلامي على تحريمها مراراً وتكراراً في القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة.
بعض العنصريين العرقيين ينسبون أصل الخيانة إلى هذا الشعب أو ذاك، إلا أن الخيانة- كما الدود- كامنة في كل البشر على اختلاف ثقافاتهم وقناعاتهم، ويكثر اللجوء إليها حيث تضعف الأخلاق أو تنعدم.
لست أريد أن أضع العربة أمام الحصان فأزعم سلفاً أن العثمانيين هم من أكثر القوى في هذا العالم استثماراً في الخيانة، كل ما سأفعله هو أنني سأستعرض لكم شيئاً من تاريخهم منذ أن بدأ غزوهم لبلادنا قبل خمسة قرون وثلاثة أعوام.
في عام 1516 وجَّه السلطان العثماني سليم الأول رسالة تهديد إلى السلطان المملوكي قانصوه الغوري يطالبه فيها بالدخول طواعيةً تحت حكمه قائلاً: «أما بعد، فإن اللـه أوحى إليّ بأن أملك البلاد شرقاً وغرباً، كما ملكها الإسكندر ذو القرنين، وإنك لمملوك تُباع وتُشترى، ولا تصحُّ لك ولاية، وأنا ابن ملك إلى عشرين جداً»!
غير أن سليم الأول لم يكتب رسالته الاستفزازية هذه إلا بعد أن حضَّر جيشه للغزو واستثمر أمواله في الخيانة، إذ قام جواسيسه بشراء ذمم بعض كبار أمراء المماليك. وعندما توجه الغوري إلى بلاد الشام لصد الغزاة والتقى الجيشان في مرج دابق في الثامن من آب 1516 كانت الخيانة قد حسمت المعركة سلفاً. وقد وصف أحد الضباط العثمانيين كيف لعبت الخيانة دورها في انتصار سليم الأول قائلاً: «ويهرب خاير بك وجان بردي الغزالي بك، من قواد السلطان قانصوه الغوري، لينحازا برجالهما إلينا. وغيرت هذه الخيانة شكل الموقعة وكانت أساس انتصارنا».
وقد كافأ الغزاة عميليهما فعينوا الأول والياً على مصر والثاني والياً على بلاد الشام، فسخر المصريون من خاير بك وسموه «خاين بك» وعندما حاول جان بردي الاستقلال بالشام قتلوه.
وفي عام 1517 استثمر العثمانيون في الخيانة مجدداً عندما اشتروا زعيم قبيلة أولاد مرعي البدوية، فقام بتسليمهم السلطان طومان باي، بعد هزيمته في معركة الريدانية التي خاضها ضدهم، فقام السلطان سليم بإعدامه وتعليق جثته على باب زويلة في القاهرة.
وقد وصف المؤرخ الكبير ابن إياس الفظاعات التي اقترفها العثمانيون في بلاد الشام ومصر، وشبهها بغزو هولاكو لبغداد. يصف ابن إياس نهب العثمانيين للقاهرة قائلاً: «حملت مراكب سليم بن عثمان حتى الشبابيك الحديد والطيقان والأبواب والسقوف. وحمل سليم معه بطريق البر على ألف جمل – كما أُشيع – أحمالاً من الذهب والفضة والتحف والسلاح الصيني والنحاس المكفت، ثم أخذ الخيول والبغال والجمال والرخام الفاخر، ومن كل شيء أحسنه. وكذلك غنم وزراؤه من الأموال الجزيلة، وكذلك عسكره فإنهم غنموا من النهب ما لا يحصى، وصار أقل فرد منهم أعظم من أمير».
واليوم يستثمر العثمانيون الجدد في خيانة ما يدعى بالجيش الحر وغيره من الفصائل المرتزقة، على حين تتعالى ولولة متزعمي الأكراد لأن أميركا خانتهم وتخلت عنهم. ونحن نحيل هؤلاء لما قالته داعية الحقوق المدنية، السيدة الأميركية الأولى إلينور روزفلت (1884 – 1962):
«إذا خانك الشخص مرّة فهذا ذنبه، أما إذا خانك مرتين فهذا ذنبك أنت».