لا شكّ أن الأحداث تتسارع آخذة بواقعنا المعيش إلى خلخلة فكرية، يستفيد منها أولئك اللاهثون وراء السراب، وإرادتها إدخال تطورات وإجراء تغييرات في فكر وعمل ليس مجتمعنا السوري فحسب، وإنما لكامل المنطقة العربية والإسلامية، مستفيدة أولاً من ثبات الوعي التاريخي الذي أظهر عقلية مختلفة عن إرادة التطور والتقاء الفكر السياسي والاقتصادي مع هذه العقلية في التفكير، والنظر إلى مختلف مشكلاتنا الداخلية والخارجية، ما أبطأ الحلول، وأوقف حتى البحث عن إيجاد سبلها، وهذا ما مهّد كثيراً لاستمرار التدخلات الخارجية التي توجه الإرادات كيفما تُردْ، وللأسف الاعتماد المستمر على تلك التوجهات بدلاً من أن تكون منطلقاتنا وطنية وواقعية، تنطلق من حاجاتنا وما يتطلبه مصيرنا منذ زمن ماضٍ مديد، وصولاً إلى اللحظة التي أخص منها تسعاً من السنين، حيث ينتظر الجميع الولادة الجديدة، ونحن نشهد تداول الناس الأوهام والدعايات المختلفة، وأمثلة الفرقة والانقسام نراها تنتقل من فم إلى أذن، تتدحرج إلى أفواه جائعة وعطشة، تتقبلها الناس من دون تشكيك أو حتى تساؤل حول صحتها أو مصداقيتها، والأنكى من كل ذلك أن سواد المروّجين لها من أهل العقد والفك، الذين يمتلكون غاية واحدة تتجلى في استبقاء الوطن ومواطنيه في طور التخلف والتأخير، ليكون وجودهم في خانة العداوة للوطن، وبالتالي أعداء لحريته، وأعداء لنهوضه وإنسانيته.
هل عرفت الحكومات المتعاقبة نفسية شعبها وفضائله وعيوبه؟ وهل أمسكت بنواصي العلم به، فاتجهت إعلامياً إليه؟ وهل أمسكت بزمام توجيهه، وهي التي خرجت منه، وظهرت عليه؟ هل امتلكت برامج إستراتيجية، وسارت معها بالشكل السليم؟ وهل استوعبت طاقاته الشابة والخبيرة؟ أم إنها تركته للظروف، يعالجها بهوايته التي تحتاج إلى صقل منها؟ وهل دققت القائمة على شؤونه في ظهورها عليه، وكيف يستشعر الناس بذاك الانفصال فيما بينهم وبينها؟ على العكس تماماً من ذاك الظهور للرئيس الذي يستشعرون معه بالأمان والأمن، لأن اتصاله معهم اتصال روحي دائم، وتفاعل يجسد رغباته التي هي رغباتهم، وأمانيه التي هي أيضاً أمانيهم، ونزعاته إلى وحدتهم ووحدة أرضهم ودحر الإرهاب والمعتدي والمحتل عن كامل ثراهم، وتوثيقه لغته بأنها لغتهم، ومتابعته الحثيثة لمقتضياتهم الاقتصادية والاجتماعية، ناهيكم عن مشاغله السياسية التي يديرها كأشد المحاربين.
ما معنى فشل العدوان الإرهابي الظالم على سورية؟ والأهم كيف أُفشل هذا العدوان؟ أوَلم يكن بالانتصار أولاً على ما أشيع بين أفراد المجتمع من خداع استخدام الشعارات البراقة؟ وكان هذا بفضل من صموده مع بواسل الجيش، ولا شك في أن مسار الناموس الطبيعي يستغله المشككون من خلال عرض التناقضات المنتشرة المستكينة، ومن تفعيل الشك فيما بينها، فالتشكيك ليس حقيقة مستقلة، إنما عملية فكرية لها أدوار ومهام تصيب العقول، وتأخذ بها إلى مواقع ومهام خطِرة، والذي حدث بين أبناء مجتمعنا الذي يجتمع فيه تنوع هائل من الموروث الديني والأيديولوجي، والذي لم يقدر العلم حتى اللحظة على تخليصه من سلبياته، نظراً لبطء التقدم العلمي أولاً، وللتعليم الوظيفي لا الإبداعي ثانياً، أدى كل ذلك إلى تعميم السذاجة الفكرية التي تتقبل الإشاعة والتشكيك، وأكثر من ذلك تعمل على تضخيمها ونشرها، متخيلين أنها ستغدو حقيقة أو واقعاً في حدّ ذاتها.
إن وطننا العربي السوري بوضعه الجغرافي الإستراتيجي كملتقى للحضارات ومنبع للديانات وشرايين للاقتصاد المحيطي والبعيد، مستهدف بشكل يدعو جميع أبنائه وعلى اختلاف مشاربهم لحماية وجوده، فالدعوات والدعايات تصوّب نحوه من كل حدب وصوب، وكانت الإرادة الغريبة عنه ومازالت تحلم بتقسيمه إلى دويلات وشيع وفرق وعقائد، من خلال الضخ عبر وسائط التواصل الاجتماعي، لتعمل جاهدة لتسميم أفكار وعقول أبنائه، وللأسف وكما أسلفت، هناك من تتنازع ضمائرهم هنا أو هناك من دون وعي لأهمية الوطن، فالآخر لم يقدر يوماً من وجهة نظره أن يرى وطننا سوى موانئ ومطارات وطرق مواصلات ومواد أولية وطاقات بشرية، يريد أن يستغلها ويسخرها ويساوم عليها، من أجل استمراره وبقاء مصالحه.
الوطنيون المؤمنون والراسخون المتجذّرون رجالاً ونساءً شيباً وشباناً، الذين خلقوا لحمل الرسالة الحضارية والاستمرار في صناعة المضاف إلى التاريخ عبر صونهم بدمهم وعلمهم وعرقهم المنتج أرض وطنهم والحفاظ على إعلاء شأنه والذود عن حدوده، قادرون على ديمومة نجاحه.
اسمحوا لي أن أطرح أسئلة، ربما هي بدهية في أي عصر، أليس يحيا العالم اليوم في عصر الاتصالات والتواصل، حيث يفترض أن يكون اجتماعياً إنسانياً أخلاقياً؟ والذي يراه ويتابعه يجده يعمل على زيادة الفرقة عبر الفضائح والابتزاز وتحطيم النفوس ومحاولات كسر القيم وتحطيم الدول، كيف بنا نكتب التاريخ الذي انحرف إلى مجاهل لا إنسانية، من خلال السطو والمؤامرات والحروب؟ وللأسف الشعار السائد السلم والسعي للسلام، والأهم من كل هذا ما وضعنا اليوم؟ وكيف بنا ننظر إلى الغد؟ وما السياسات على كل المحاور التي يجب اتباعها؟ وهنا أتجه إلى الجمهرة الوطنية، أسألها عن حجم إسهامها في أداء الواجبات الوطنية في هذه المرحلة التاريخية من حياة وطننا، وأن على عاتقهم يقع فهم ما يحتاجه الشعب والوطن من أجل إغناء وجدانه وفكره الذي يتطلع إلى الخلاص والسلم والأمن والأمان، فالشعب يطالب كل مهتم وطني بتقديم ما لديه بعيداً من التقليد أو النقل، الشعب يريد تسخير المواهب وإيجاد فرص لحياته وحياة جغرافيته، وهذه مسؤولية قد يعتقد البعض أنها سهلة، لأن الشعب الوطني يثق بحيوية قائده وفاعلية المؤمنين فيه، وأملهم ألا يضيع إسهامهم في المعارك الطاحنة التي أعادت إلى جزء كبير من الوطن حيويته وحريته، ولم يبقَ إلا القليل، إلا أن خوفه وحبه في آن يدعوانه إلى بعض من الشك الضروري، كي يصل إلى اليقين المطلق.
هل نقدر على مساعدته؟ أيها الوطني أبهرني حضورك في لجّة ظلمات الوطن، وجسَّدت أنموذجاً عالياً في الانتماء ضمن بيئة حاول الأعداء أن يفقدوك معناها، فأعدت الثقة لمن حولك، وأراهن بك وبذاتي على ردّ من خرجوا عصاةً لهذا الوطن، بالعودة إلى الإيمان بك وبالأرض، ومما خدعوا به بأنه ثورة إلى التوبة والإيمان، لأنني أتوسم من هذا السيل الذي يشق مجراه، وأقصد وسائل التواصل، بالتوجه إلى النفوس الضعيفة أن تكون قوية وواعية، وأن تنتبه من غدر وقصص الغابرين، التي تحمل السمَّ في الدسم، فما يشجعكم أن تمتلكوا الحكمة التي تؤتيكم الشجاعة والحرية، والتي تزيد الحب والخصب بمعنى الإنتاج الإيجابي، فإذا أوغلتم في طريق الحياة وصلتم إلى النجاة.
لا تكترثوا للجيف الحية التي تزعم بأنها قادرة على الوقوف في وجهكم، وغايتها إبقاؤكم حيث أنتم، أشيعوا أشعتكم في حياة وجودكم، تجاوزوا لغة الماضي المقدمة لكم كحضارة محتضرة ومتداعية، ابنوا يومكم، واعملوا لغدكم، فبهذا وذاك يحيا الوطن، إنكم مشدودون إلى لا نهايتين؛ وجود مطلق، وعدم مطلق، دعوا كليهما، وتفكروا في بنائكم الذي يقع على عاتقكم تحديثه أو هدمه شريطة إعادة بنائه بالشكل الأمثل، ولكم القدرة على ذلك، أما إنْ تُهتم بين أنكم تاريخيون أو مذهبيون أو حضاريون فستكن بها نهايتكم، وتكونوا بذلك فيسبوكيين لا أكثر ولا أقل، تقبلون الإشاعة، وتشيعونها في مرحلة الانتظار بلا هدف ولا نتائج.
التشكيك بالوطن والوطنيين يحضر من نظم الإشاعة وشيوعها بين مرحلتي الوعي واللا وعي، وبها تتراكم الإساءة التي تعتبر مؤخرة لأي دولة، فانفلات أمرهما يسبب أكثر من كارثة في حالة الرخاء، فكيف إن كانت هناك صراعات وحروب وأزمات اقتصادية مبرمجة ضده.