الجهل وما أدراك ما الجهل! الجهل الذي يدّعي كل واحد منا البراءة منه، ويتحدث عنه، ويريد أن يخلّص المجتمع منه وهو غارق فيه! الجهل الذي نلصقه بمن لا يقرأ ولا يكتب، والحقيقة: إن من لا يقرأ ولا يكتب هو أكثر تنوراً من حاملي الشهادات العليا من باريس ولندن وبرلين والقاهرة ودمشق!
ومن لا يقرأ ولا يكتب أقل حقداً على التفوق، وأكثر تنوراً من حاملي الشهادات العلمية العليا! هل تصدقون أن حاملي الشهادات يحملون قدراً أكبر من الجهل والتعنت، وخاصة إن كانوا أصحاب مواقع، وكانت كلمتهم مسموعة؟ هل تعلمون أن أحكامنا على الأشخاص والقضايا والمواقف هي أحكام قيمة تخضع لجهلنا أولاً، ولانسياقنا وراء ما نظنه يماشي الحياة الواقعية السياسية والاجتماعية؟ أفهم أن يتهم أحدهم نزار قباني، وهو لم يقرأ شيئاً له، ولا يعرف مواقفه وأشعاره، وبصورة أدق يعجز عن فهم شعره ومراميه، وأفهم أن يقف إنسان عادي موقفاً مضاداً لأدونيس، لكن هل يمكن أن يقبل ذلك من شرائح مثقفة، ومن شخصيات وصلت إلى مواقع مهمة؟ وهل يسمح لهؤلاء أن يغتالوا ما تبقى من رموز سورية التي تباهي بهم؟ إذا كان حاضرنا رديئاً، ومثقفنا متواضعاً، فهل نسمح باغتيال المثقفين الرموز الذين غادرونا قبل عقود بعيدة لمجرد أننا لا نعرف عنهم شيئاً؟ منذ أشهر نظمت ضمن فعاليات الندوات الشهرية ندوة عن محمد كردعلي مؤسس مجمع اللغة العربية في دمشق، والوزير والعالم والأديب، والسوري المنتمي. وانبرى عدد من الناس إلى الطعن بهذا الرجل، فتارة هو رجل ماسوني، وتارة هو كردي غير عربي، وتارة هو يكره العروبة، ولم يكلف أحدهم خاطره بقراءة كردعلي الذي أهدى سورية أول مجامعها العلمية، وأول مجمع علمي عربي، ومؤلفاته تشهد على علو كعبه وانتمائه الفكري العروبي، ويكفي سورية فخراً أنه جابه أحمد أمين الذي يباهي به المصريون، ويكفي سورية فخراً مجمل أعماله التي قد لا تصل إليها مؤسسات في زماننا، فلمصلحة من يتم تهشيم هذا الرمز الكبير في تاريخنا؟
ومنذ شهر وضمن الفعالية نفسها تم تخصيص تكريم للدكتور رضا سعيد مؤسس جامعة دمشق ومنشئ المعهد الطبي في دمشق، نواة كلية الطب، ورئيس بلدية دمشق، ووزير المعارف المتوفى عام 1945، وكانت دراسته في الآستانة وباريس ليصبح طبيب العيون الأكثر شهرة ونجاحاً وفي أثناء الندوة طالب أحدهم بعدم تكريمه لأنه درس في إستانبول وباريس، وهما عاصمتا بلدي الاحتلال، ولم يتنبه صديقنا إلى أنه درس قبل الثورة العربية، ولم يكن في سورية معهد للطب وهو من أسسه، فهذا الرجل يحاكمه من منظور اليوم ويضعه في شرط غير شرطه الموضوعي، وهذا العالم الذي يستقبل رسمه كل داخل إلى مبنى رئاسة الجامعة عرفاناً بفضله يستنكر بعض الجهلة تكريمه، وينسون أفضاله الكبرى على سورية كلها وهو مؤسس الجامعة السورية الأم.. والأكثر غرابة واستهجاناً أن جامعة دمشق بكل إدارييها ومسؤوليها وكوادرها لم تشعر بالعرفان لرضا سعيد فلم تحضر بأي شخصية اعتبارية، وعوضاً عن حضورها، جاء من يخبرني بأن الجامعة تحتج على تكريم رضا سعيد لأن ابنه له مواقف في الحرب على سورية لا تنسجم مع المواقف الوطنية!
هل يعقل أن تكون أعلى سلطة علمية في سورية بهذا الفهم العميق؟ رجل رحل عن دنيانا عام 1945 وعندما جاءه صحفي ليسأله عما قدمه للجامعة، قال له: أنا لم أقدم شيئاً، لست أكثر من إنسان عادي قام بواجبه، نحاسبه على موقف جاء بعد أربعة وسبعين عاماً من ابنه!
هل يعقل أن نحرق ونغتال ونقتل قامة فكرية وتنويرية بحجم رضا سعيد إكراماً لجهل أحدهم أو تقصير أحدهم، وربما لحقد أحدهم على من قام بتكريم رضا سعيد؟
وربما انبرى أحدهم ليقول: رضا سعيد ماسوني أيضاً! وهنا كما في كردعلي أنظر إلى إنجازه وعطائه وما قام به في رحلة حياته العلمية الطويلة التي أغنت الطب وتعريبه بالتعاون مع أصدقائه الكبار وتلامذته من مرشد خاطر إلى حسني سبح.
بالأمس القريب اجتمعت مع شخصية إدارية جليلة مسؤولة عن مؤسسة علمية تعليمية تنويرية وحدثني بأنه يعاني مع مجلس الأمناء، وننتبه إلى الحيثية- مجلس الأمناء- وهم من الباحثين وحملة الشهادات العليا، ويقودون مؤسسة تعليمية، ولكم أن تتخيلوا المعاناة، وبالحرف الواحد قال: كل عام نختار شخصية سورية لتكون شخصية العام، عندما اخترنا في اجتماع شخصية عمر أبو ريشة اعترض أحد الدكاترة الأجلاء ووصف أبا ريشة بأنه معارضة، بل أكثر من معارضة، وعندما اخترنا اسم رضا سعيد اعترض الدكتور نفسه وقال: حفيده معارضة، وننتبه إلى أن المعترض لا يميز بين الابن والحفيد، فأي باحث هذا؟ وكيف يقبل رأيه في الحكم على الناس؟ وحين اخترنا شخصية بدوي الجبل اعترض الدكتور نفسه وللأسباب نفسها، وبالطبع لم يحمل أي عام من هذه الأعوام اسم علم منهم لأنهم برأيه ليسوا وطنيين!
وعندما تم اختيار نزار قباني اعترض، ولكنه وافق على مضض وللأسباب نفسها!
أخاطب أصحاب القرار ومن يقرأ: إذا نحن اغتلنا كردعلي ورضا سعيد وعمر أبو ريشة وبدوي الجبل ونديم محمد وأدونيس ونزار قباني، والقائمة تطول من هؤلاء المبدعين الذين أصبحوا مطلوبي الرأس، وبعضهم مضى نصف قرن وأكثر على رحيله، فماذا سيتبقى من سورية الحضارة؟
وإذا كانت جامعتنا لا تقف بانحناء أمام رئيس الجامعة المؤسس الذي نحتاج إلى قرون طويلة لنفهمه لا لنصل إلى مستواه فلا أمل في الحياة العلمية القادمة!
وإذا كان سيد الشعر بدوي الجبل، وسيد الصورة عمر أبو ريشة في مكان الرفض لدى حاقدين وموتورين لم يتنبهوا أن السيد الرئيس أمر بطبع أعمالهما ودواوينهما في وزارة الثقافة السورية تكريماً لهما ولسورية فالمشكلة أكبر.
وعندما تقبل وزارة التعليم العالي اسم نزار على شخصية العام، وترفض الحديث عنه، وربما من الباب نفسه، فهذه مشكلة أكبر، لأن هؤلاء لم يعرفوا أن الدكتور بشار الجعفري استشهد بشعره في الأمم المتحدة: «أشكو العروبة أم أشكو لك العربا».
ولم يعرفوا أن الرئيس حافظ الأسد أطلق اسمه على شارع مهم في دمشق.. الجهل والجهل وحده يريدنا بلا قامات ولا منارات ولا تاريخ، ويريد تحويلنا إلى مجموعة من الحقدة.