بدلاً من أن تعطيني سمكة علمني كيف أصطاد، وأحد عظماء الأمة قال: لا أخاف على أمتي من الفقر، إنما أخاف عليها من سوء التدبير، فالفقر ليس عيباً، المشكلة تكمن في استمرار الجهل، الذي يقف دائماً في وجه التعلّم والتعليم ومنع تمدده، وعندما ندقق في أسباب وجود الحياة نجد أن أهم بنودها هو السعي فيها بحثاً عن الرزق، الذي لا يصل إليه أي كائن حي إلا بالعمل والاجتهاد، فالسماء لا تمطر ذهباً، وكلما أجاد عمله زاد رزقه، وطبيعي أن تكون الناس على سلم الحياة، وأن يكون فيها درجات وطبقات يحددها الاجتهاد، وتقودها الأخلاق التي تتراوح نسبتها من شخص لآخر.
الذي دعاني لاختيار موضوعي، أني كنت في الساحة المقابلة لمدخل المسجد الأموي، وشاهدت أسراب الحمام كيف تحط وتطير، ووجدت شخصاً يبيع أكياساً صغيرة من حب القمح من أجل إطعام تلك الطيور، اشتريت كيساً صغيراً، وبدأت أطعمها، وبحكم غريزتها، إذ بها تحط على كتفي ورأسي، وتتناول من يدي، تقدمت مني سيدة وقورة الحضور، وقالت: أنت تعلمها الكسل، وهي التي خلقت لتبحث عن رزقها، والخالق تحدث عن رزقه للطير وهو في كبد السماء، أيها السيد إنها تملأ الأماكن المقدسة وغير المقدسة بمخلفاتها، كم تكلف عملية التنظيف خلفها؟
تفكرت في الأمر، فوجدت أن السيدة على حق، وأن هذه الطيور لو أني أربيها أو أربي غيرها من الحيوان، لكنت فعلاً أنا المسؤول عن إطعامها، لأني سأجني من خلالها رزقاً أو أرباحاً، ودخلت في عمق العملية الفكرية أكثر، وعرفت أنني لا أساعدها، وأن ما أقوم به ليس فعل خير أو فعلاً أخلاقياً، إنما أزيد في تكاسلها وتعليمها لغة الانتظار والاتكال، وأيضاً كثير من العوالم الأخرى سنّت نظم رعاية وتربية الأبناء، واعتبرت مسؤوليتها عنهم حتى سن الثامنة عشرة، وبعدها عليهم أن يشقّوا طرقهم رغم بقاء التواصل، يطلقونهم وبدعم من دولهم لمتابعة مسيرة حياتهم، بينما نحن في عوالمنا نعتبر أن الأبناء هم وهمّهم يحمله الآباء حتى الممات، أو أنهم يعتبرونهم مشاريع استثمارية، ستدر عليهم الكثير عند كهولتهم وشيخوختهم.
وهنا أقول: إن أي نظام أخلاقي يحضر من منظّري الأخلاق هو قابل للجدال والمناقشة بعيداً عما يدفعنا من مشاعر وعواطف، تدفعنا إلى عوالم الخير والتكفير عن الذنب بمساعدة الآخرين من جنسنا أو من الأجناس الأخرى، وكثيراً ما نجد أنفسنا مندفعين عاطفياً ومعجبين عفوياً بأفعال الخير، هذه التي تشير إلى أساس الطبيعة الإنسانية، التي وجدنا عليها، لكنكم ألا تجدون معي أن سواد البشر هم ضحايا خداع مخيف؟ يأخذ بهم إلى حروب تمزقهم، وتهدم كثيراً من وجودهم، من أجل الحصول على موارد من هذه الحياة، التي لا دوام لها، وهنا أقف لأسأل: هل الرحمة أو الشفقة أو الإطعام المؤقت هو العلاج الناجع للبؤس والجوع والفقر الفردي أو حتى الجماعي، أم بالدفع بهم إلى العمل فقط يتحقق الأمل؟
الحياة أمام الناس لا خلفهم ممتلئة بكل شيء، فيها الجيد وفيها الرخيص، تدعو الجميع للاختيار والاجتهاد والكفاح والعمل، لا الاكتفاء بالأمل، فمن يتكل على الأمل فقط يموت جائعاً، فإذا لم يتجهوا إلى ذلك تخلفوا وأمسوا عالة على الأمم، يسهل اصطيادهم أو التغرير بهم تحت مسمى مساعدتهم على الحياة، أي إنهم يصبحون وقوداً بلا مقابل لأتون الحروب والصراعات وإنشاء الفتن والخيانة والتبعية.
الشعوب المدبرة أبناؤها ناشطون في الحرب والسلم، خلاقون في الشريعة والفنون والآداب، بنّاؤون للفكر، وماهرون في شق الطرق والصناعة، ومهمون في زرع الأرض واستغلالها، صيادون في البحر والبر، هل ينتبه أبناء وطننا لما هم عليه، وأن نكون على منوال الآباء والأجداد؟ هل نريد حقاً أن نتفوق على أنفسنا أولاً، بأن ندرك معاني التدبير مع مسؤوليتنا في صناعة الجمال وتهذيب مشاهد الطبيعة؟
أيها الناس لن يكون لنا شأن إن لم تخضع الأرض لمشيئتنا، وأن نحول أفكارنا إلى عمل، فإن فعلنا فنحن أصحاب وطنية حقيقية، وبها يهابنا الآخرون.