من الواضح جداً أن الخرس أصاب كثيرين في الإقليم والعالم بعد الصورة الباهرة التي قدمها الشعب العربي السوري في الانتخابات الرئاسية السورية، وقراره الواضح والحاسم باختيار الرئيس بشار الأسد لسبع سنوات قادمة، عنوانها «الأمل بالعمل».
وبمتابعة ورصد لما تنشره وسائل الإعلام العالمية والعربية، فإن المزاج العام باتجاه تغير جذري بدأنا نلمحه بشكل واضح جداً، وإن كان بعض الواهمين ما زالوا يعيشون الماضي البائس والتعيس، الذي سقط وتهاوى أمام انبهار الجميع بالصورة الصارخة لتدفق السوريين في الخارج والداخل، للقول لكل الذين تآمروا على بلدهم، وعليهم أن القرار بالنسبة لمستقبل سورية هو بيدنا، ويدنا فقط، وإن كل محاولات الوصاية، والتنظير، والأستذة على هذا الشعب لن تفلح أبداً، ولا حتى محاولات التجويع والحصار المترافقة مع حرب نفسية ضارية.
إذاً علينا تغيير الأدوات والوسائل، وإعلان الهزيمة، وإن كان مع محاولات حفظ ماء الوجه، كما قال السفير الأميركي الأخير في دمشق روبرت فورد، بشكل غير مباشر في مقاله الأخير في «الواشنطن بوست»، أو كما أعلن عزمي بشارة قبله في التاسع من أيار، وهو ما أشرنا إليه في مقالنا بعنوان الرثاء الأخير في «الوطن» السورية، حيث أعلن هزيمة منكرة لما سماه معارضة سورية في الخارج، وهي هزيمة لمعلميهم، ورعاتهم، ومموليهم، لأنهم في الحقيقة مجرد أدوات رخيصة، وخونة لبلادهم وشعبهم، ووقود لمشاريع الآخرين للأسف!
بعض المكابرين ما زالوا يلوكون الوهم نفسه، واللغة نفسها، ويعيشون على لغة أصبحت بالية، ومخجلة، وهذا النموذج نجده في تصريحات أطلقها وزير خارجية قطر الذي أعلن أن مشيخته لن تعيد علاقاتها مع سورية من دون أن يسأل نفسه، أن قطر يجب أن تحاسب على تورطها في دعم الإرهاب من خلال تمويل مهول وصل إلى أكثر من 137 مليار دولار، حسب رئيس وزرائه الأسبق حمد بن جاسم في تصريح مسجل، ثم أن ما يلاحظ أن تصريح الوزير القطري ترافق مع مقالات في صحيفة «يني شفق» التركية بقلم شخصيات بارزة في الحزب الحاكم، مثل ياسين أقطاي الذي كتب مقالاً يشرح فيه لنا «مسرحية الانتخابات الرئاسية السورية»! حسب زعمه، وحسب أرقام يفصلها على مزاجه، من دون أن يشرح لنا من هم هؤلاء السوريون الذين أظهرتهم كاميرات التلفزيون، والذين تدفقوا كالطوفان في خارج سورية وداخلها! والحقيقة أن معالجة الخلاف السياسي ممكنة بالحوار، وتغير الحقائق والمعطيات، وبالتفكير الواقعي، ولكن النقاش الحاقد، والحقد لا علاج له إلا في مشافي الأمراض النفسية، لأن أي عاقل بعد سنوات عشر من هذه الحرب الطاحنة، والفاشية، وانكشاف أوراقها، ووثائقها، يجب أن يفهم أن عليه تغيير مقارباته، والطريف في الأمر أن ياسين أقطاي الذي يُنظر علينا بـنزاهة الانتخابات نسي تماماً أن رئيسه رجب أردوغان فرض إعادة الانتخابات البلدية في اسطنبول بقرار خارج إطار القانون، ليُمنى بهزيمة منكرة أكبر من الأولى من دون أن يتعلم الدرس أبداً، وفي الوقت نفسه فإن أردوغان الذي وصف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأوصاف لا تليق برئيس دولة، عاد ليتحدث عن العلاقات التاريخية بين مصر وتركيا، وهو نفسه الذي أقسم أغلظ الإيمان بأنه سيحاسب قتلة الصحفي جمال خاشقجي، عاد الناطق باسمه إبراهيم قالين ليقول: إن قرار المحكمة السعودية عادل ومقبول، وإن أردوغان يطمح لتطوير العلاقات بين تركيا والسعودية بعد أن كان الرجل يتنطّح للإشراف على مكة والقدس.
مشكلة هؤلاء أنهم ما زالوا يعيشون على فتات وشظايا مشروع سقط وانتهى، وأن الإقليم والمستقبل لا يمكن أن يبنى على عثمانية جديدة، لأن النسخة القديمة دفنت منذ مئة عام وانتهت، وصاحب هذا الطرح أحمد داود أوغلو، أعلم الصحفي التركي أوزغور إيردم في كتابه الأخير «الإفلاس الإستراتيجي» ضرورة مراجعة طرحه الأول «العمق الإستراتيجي» أي إن على تركيا وحزبها الحاكم، إعادة النظر في كل المقاربات السابقة، على الرغم من أن داود أوغلو هو صاحب الطرح المذهبي في السياسة الخارجية التركية، وهو من مذهب هذه السياسة الخارجية، وكاد يُفجر تركيا من الداخل بسبب طروحاته المريضة، والتي أجبرت معلمه السابق أردوغان على البدء بمراجعة شاملة لسياسات جعلت من تركيا بلداً معزولاً، باقتصاد متعب ومتراجع، وحرائق في محيطها، ستمتد إليها حكماً إن استمرت، وبالتالي إن أي سياسي تركي عاقل، وبعيد عن مرض سرطان «الأخونة» سوف يصل إلى نتائج مختلفة لما طرحه ياسين أقطاي، أو لما يطرحه إبراهيم قالين وغيرهم ممن لا يزالون يعيشون على ماضٍ مريض، ومستقبل بائس، ولغة أكل عليها الدهر وشرب.
لذلك ليس غريباً أن يصدر تصريح الوزير القطري مترافقاً مع مقالات ينشرها واهمون في تركيا، فالمحور التركي- القطري ما زال يتمسك بمشروع «الإخوان» الذين أُسقطوا في مصر، وافتضح أمرهم في تونس، وظهرت خيانتهم ودناءتهم في سورية، ووقعوا على التطبيع في المغرب، وهلم جر، إذاً كيف يمكن لبعض الواهمين في تركيا أن يستعملوا لغة ومصطلحات عام 2011! هل هؤلاء لم يقرؤوا التاريخ خلال السنوات العشر الماضية؟ هل مازالوا يتوهمون بتغيير يحدث بالتنجيم، وقراءة الفنجان؟
من الواضح تماماً أنهم سيضطرون لتغيير مقارباتهم المؤدلجة، والبناء على مقاربات واقعية شاؤوا أم أبوا، لأن صمود الشعب السوري، ورسالته الأخيرة دوّت في كل أنحاء العالم، وصفعت الوجوه البائسة التي كانت تراهن على نتائج مختلفة لما رأوه، فالصورة التي رأوها كانت صاعقة، ولهذا نرى أن الصمت عمّ بشكل عام باستثناء البعض الذي مازال يكابر ويناور في دائرة ضيقة جداً، وبأدوات بائسة انتهى زمنها، ولم تعد تقنع أحداً، حتى داخل تركيا نفسها.
أما إذا أراد هؤلاء الاستمرار بالوهم الذي يعيشون فيه، فهذا أمر يسرنا، ولن يزعجنا، لأننا أصحاب حق، وندافع عن بلادنا وشعبنا، وسنبني مستقبلنا بأيدينا، وليس بأيدي من توهم نفسه سلطاناً، أو والياً لزمنٍ لن يعود، ولزمنٍ لن يحسنوا قراءته، وقراءة نتائجه التاريخية، التي أدت في النهاية إلى سقوط مدوٍّ للسلطنة وأوهامها، لأنها أخطأت بنفس طريقة تعاطي أقطاي وقالين فهؤلاء لا يقرؤون التاريخ، ولا يفهمون إرادة الشعوب، ولا يريدون أن يفهموا، لأن النتيجة الواضحة هي «الإفلاس الإستراتيجي» حسب منظّرهم داود أوغلو بعد أن نشر مجلداً عن «العمق الإستراتيجي»، والصحيح أن «العقم الإستراتيجي» سيوصل إلى «الإفلاس الإستراتيجي»، وهو حال جماعة أردوغان حالياً.