بحكم البيئة والتعليم انتظمت في دراسة الكتاتيب في مسجد القرية إضافة إلى القراءة النظامية في المدرسة الابتدائية، فأخذت في حفظ القرآن، وحفظت أجزاء منه، وهذه مرحلة أفخر بها وبالشيخ الذي كان يدرسنا في المسجد، والبيئة والدراسة ساقتني وبحب لأكون ضمن إطار فكري أنتمي إليه ولا أتحلل منه، ولو فعلت فإنني أتخلى عن المرحلة التي أسستني، بل إنني أنتمي إلى هذه المنظومة الفكرية، وإن كنت قد انحزت عن بعض المفاهيم والرموز والعادات والطقوس، فإنني أفعل ذلك وسأفعله لأنه يتنافى مع العقل ويتجافى مع المنطق اللذين يحترمهما الدين.. في حلقات صوفية انتظمت حضورها على تقطّع بسبب الانتقال والمواصلات وجدت الكثير من غذاء الروح، لكنني وجدت الأكثر الذي أبقاني على علاقة مع التصوف كما أفهمه أنا وكما قرأته، وليس كما أراه من المشايخ الذين التقيتهم وأجلهم رحم الله من مات منهم، وحفظ من بقي، ولعلّ أهم ما استوقفني ما تردد على سمعي (من لا شيخ له فشيخه الشيطان)! فكيف يكون الشيطان شيخاً لإنسان يقرأ ويتعلم ويتدارس الكتب، وقد يصل مرحلة من العلم والفهم أعلى من تلك التي وصل إليها من يرونه شيخاً لهم أو لطريقتهم؟!
كنت أسمع بين مدة وأخرى تعبير (من لا شيخ له فشيخه الشيطان) ولكنها كانت للتندر والمزاح، خاصة وأنني ضمن معرفتي المتواضعة في الشرع والعلم أعلم أن الإسلام علاقة خاصة بين العبد والرب، وليس ديناً يحتاج إلى واسطة مع الرب، فكل ما يحدث تتم معالجته بالتوبة والاستغفار والستر، وما من ضرورة لوجود شيخ يتوسط لك ويدعو لك ويستغفر لك، مع بقاء مهمة العلماء في الإفتاء وبيان الرأي في المسائل العويصة التي تحتاج إلى رسوخ في العلم وحفظ وما شابه من أمور علمية لا تتوافر للعامة.
وقد درسنا العلم وجهود العلماء السلف، خاصة في علم الحديث، وعلى يدي الدكتور الراحل نور الدين عتر في قسم اللغة العربية، ومن خلال ابن الصلاح وسواه عرفنا ما يسمى (الرحلة في طلب الحديث والعلم) إذ كان طالب العلم في ظل غياب المعاهد المتخصصة والجامعات الأكاديمية يشمّر ساعد الجد، ويبدأ رحلته في طلب العلم والحديث الشريف في أي صقع من الأصقاع، ويحصل على الإجازة من هذا العالم أو ذاك برواية كتاب محدد، أو رواية من فنون العلم، أو برواية جملة كتبه وعلومه، وهذا الأمر فيه الكثير من التحري والصدق، خاصة في الحكم على ما يرويه فلان أو فلان.. واليوم، وبعد انتشار المعاهد والجامعات ووسائل التواصل، والتعليم عن بعد، ومشاقّ السفر، وتوفر العلم في أي مكان في العالم لم تعد رحلة طلب العلم بهذه الدرجة من الأهمية، وإن وجدت فهي أمر عظيم يضاف إلى أمور ترفع سوية العالم، وخاصة في دقائق العلم، فمن أخذ عن اينشتاين مباشرة أعلى ممن لم يتمكن ولم يدركه، ومن أخذ العلم الشرعي واللاهوتي في مراكزه يتمتع بوثوقية أكبر، إن كان عالماً، ولكن الذي لم يدرك وما يتمكن، وحالت الظروف دون أن يجلس مع العلماء الدنيويين أو الشرعيين، فهذا لا يغضّ من قيمته.. ومنذ مدة وصلني تسجيل من أحد أصدقائي الدكاترة يتحدث فيه شيخ، وبكل حزم عن أنّ من لا شيخ له لا يؤخذ عنه، وبأن الكتب لا تكفي، فأحدهم يقول لأحدهم: اسكت فأنت لم تأخذ عن شيخ!! والمتحدث يشهد بعلم المطلوب منه السكوت، لكن علّته أنه لم يأخذ عن شيخ مشافهة، وإنما أخذ العلم من الكتب! وينتهي إلى أن من لم يجلس بين يدي شيخ أو أستاذ فإن علمه ناقص، ولم يتم صقله وتهذيبه وتوجيهه!!
فعادت بي الذاكرة إلى مقطع يجتمع فيه ثلة من علماء بلادنا، ويجلسون مع شخص غير معروف، ويتحدث حديث العامة، وبين الحضور من يجلّه الناس علماً وشهادة وشخصيات، ويخرجون بصوت واحد: أجزنا يا شيخ برواية علمك، فيقول: لا حول الله من أنا؟ أجيزكم شرط أن تجيزوني أنتم، فيمسك المجتمعون أياديهم ويرددون مع هذا السيد لفظ الإجازة، هذا اللفظ العام الذي لا يتحدث عن علم أو كتاب أو فن! وبعد الجلسة ستوزع الإجازات المتبادلة بين الحضور، فماذا أجازوا؟ وعن أي علم؟ وكيف تتم الإجازة من جلسة صفا؟ وكيف يصبح هذا الإنسان ثقة لمجرد التقى بشخص ما وأجازه؟
هناك اليوم توجه ما يحاول أن يعيد التعليم إلى طرائق لم تعد مجدية، بغية حصر العلم، والشرعي خاصة، بأيدي جماعة من الناس تحقق غاياتها وتحافظ عليها، وتعزز مقولة: من لا شيخ له! فإن كان الأمر كذلك توقفوا عن إنشاء الجامعات والمعاهد المتخصصة في الشرائع، واكتفوا بهذه الإجازات التي تأتي بالمراسلة، وبناء على السمعة والنسب!!
كان طالب رحلة العلم يبقى سنوات يتلقى كتاباً أو حديثاً، أما الآن فنهر من العلم والمعارف بكلمة أجيزك! في الإسلام ترفض كلمة رجال الدين، لأن كل واحد رجل دين من خلال علاقته بخالقه، والكلمة البديلة: عالم الدين.. وليس مطلوباً من كل الناس أن يكونوا علماء دين، وهذا فرض كفاية.. ولا حاجة لتخويفنا من أن يكون شيخنا شيطاناً!