قد لا يكون هناك من شبيه للتحول الذي قادته البورجوازية البريطانية عبر الثورة الصناعية التي أطلقتها منتصف القرن الثامن عشر، والذي أطلق العنان لتحول مجتمعي هو الأهم والأضخم في التاريخ البشري، سوى ذلك التحول الذي قاده الحزب الشيوعي الصيني المحتفل في الأول من تموز المنصرم بالذكرى المئوية لتأسيسه.
كلا الفعلين متشابهين من حيث النتائج التي قادا إليها، مع لحظ أن عامل الزمن كان لمصلحة هذا الأخير، فعلى حين احتاجت الثورة الصناعية لقرنين من الزمن لكي تضع الأساس الراسخ لتلك التحولات التي تردد صداها في بنيان المجتمعات التي طالتها، فإن التحول الصيني سرعان ما أعطى ثماره في غضون نصف قرن حتى إذا ما أتم هذا الأخير نصفه الثاني كان البنيان يناطح سحاب المجتمعات التي تصنف عادة في خانة العمالقة، حتى ليمكن القول إن النهوض الصيني، الذي لا يزال في ذروته، سوف يحدد عبر محطاته التي سيرسمها مساره معالم القرن الحادي والعشرين، والمؤكد هو أن الأميركيين هم أول من أدرك تلك الحقيقة، وظهر ذلك في الموقع الذي احتلته الصين في الإستراتيجية الأميركية التي أعلنتها إدارتي الأميركيين السابقين باراك أوباما ودونالد ترامب، وبشكل صارخ عند الإدارة الراهنة، والتي قضت بأن الصين تمثل التحدي الأكبر الذي يواجه الولايات المتحدة وسيادة اقتصادها ونموذجها، وكمحصلة يهدد سيادتها العالمية بدرجة أكبر مما كان يمثله الاتحاد السوفييتي زمن الحرب الباردة.
ما يلاحظ على التجربة الشيوعية في الصين هو طغيان العامل الذاتي على العامل الموضوعي، بمعنى طغيان الدور الكبير الذي لعبته قيادات الحزب الشيوعي في أثناء مرور التجربة باختناقات كان لا بد من المرور بها، وما ساعدها في ذلك هو قدرتها، أي قدرة تلك القيادات، الفائقة على تشخيص المعوقات استناداً لمنهجية مرنة تستند إلى خصوصية التجربة وكذلك إلى رؤية بعيدة أتاحت في المراحل المفصلية إمكانية جبّ تجارب الآخرين وتلافي الأخطاء التي وقعوا فيها.
شخص الحزب الشيوعي الصيني بقيادة المؤسس ماو تسي تونغ منذ بداية العشرينيات من القرن الماضي المعوقات التي تحول دون نهوض المجتمع الصيني بالتخلف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ثم بخضوع البلاد للهيمنة الأجنبية فقال بأولوية «الوطني» على «الطبقي» وطرح شعار التنمية، وفي سياق تحديد التناقضات الرئيسة، وكذا الثانوية، الحاكمة للنهوض الصيني ذهب ماو إلى ربطها بعامل المتغيرات الذي يعني إعادة ترتيبها تبعا لهذا العامل الأخير، فهو تحالف، مثلاً، مع الحزب الوطني «الكيومنتانغ» الذي سبق أن ارتكب مجزرة شنغهاي 1927 بحق الشيوعيين، لدحر الغزو الياباني للصين 1937 – 1945، وفي أعقاب هزيمة اليابانيين حدث أن استعرت الحرب الأهلية في الداخل فقال بأولوية الحرب على الكيومنتانغ الذين هزمهم، والفعل أدى من حيث النتيجة إلى وصول حزبه للسلطة في بكين في الأول من تشرين الأول 1949، لكن فرار قيادات وكوادر «المهزومين» إلى جزيرة تايوان كان قد أسس لخاصرة مضطربة لا تزال قائمة إلى الآن.
خلال قيادة ماو للحزب في السلطة، عارض الأخير رؤية لينين القائلة بتحقيق الاشتراكية عبر القفز فوق المرحلة الرأسمالية، فذهب إلى التأكيد أن لا بديل عن المرور بالطريق الرأسمالي، واضعاً بذلك الأساس الذي قامت عليه التحولات الجذربة بدءاً من العام 1988 فصاعداً، وفي السياق كانت هناك الكثير من القفزات التي أطلقها والتي كان من أبرزها «القفزة الكبرى» عام 1958 لتحويل الاقتصاد من الزراعة إلى الصناعة، تلتها قفزة التعليم الاشتراكي العام 1963 التي قادت نحو الثورة الثقافية 1966 – 1969، ورغم إخفاقه الاقتصادي وفشله الجزئي في الثورة الثقافية إلا أن الفعلين من حيث النتيجة كانا قد أديا إلى تحديث جهاز الدولة وإرساء مؤسساتها كقاعدة صلبة أضحت مطواعة لحدوث التحولات حين نضوج تراكماتها الكمية.
كانت نقطة التحول الكبرى للصين في عهد ماو في المرحلة الممتدة بين 1971 – 1972، التي شهد حدها الأول زيارة وزير الخارجية الأميركي حينها هنري كيسنجر السرية لبكين، بينما شهد حدها الثاني استقبال ماو للرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون في بكين أيضاً، وعبر المحطتين اللتين أفضتا إلى «تراصف» صيني في الخندق الأميركي لمواجهة السوفييت، ارتسمت الملامح الأولى لانهيار هؤلاء المدوي العام 1991، وعلى الرغم مما قيل في مشروعية ذلك التراصف الذي قضى بـ«شبه تحالف» مع أعتى قوة إمبريالية شهدها التاريخ في مواجهة نظام شيوعي كانت التلاقيات معه زائدة على الافتراقات، لكن ماو ابتنى موقفه ذاك انطلاقاً من معطيين اثنين، أولهما أن «التراصف» سيؤدي حتما لفك عزلة الصين، الأمر الذي حصل فعلاً، فقد أضحت جمهورية الصين الشعبية هي الممثل الوحيد للشعب الصيني الذي كانت تايوان تمثله في المحافل الدولية، وثانيهما هو السلوك السوفييتي البادئ في العام 1960 والذي كان هجومياً بدرجة بارزة كوسيلة لمحاربة الماوية ومنعها من التمدد في الحركات الشيوعية على امتداد العالم.
كان وصول دينغ هسياو بينغ إلى رأس هرم السلطة في العام 1978 قد شكل ذروة لا تقل في أهميتها عن الذروة الأولى الآنفة الذكر، فالرجل يعتبر بحق مطلق الثورة الاقتصادية في البلاد التي أتاحت إنتاج «صين جديدة» اقتصادياً، وفي السياق كان قد دفع بالتحولات نحو «اقتصاد السوق» لكن مع إمساك الدولة بكل المفاصل الاقتصادية المهمة، وعندما اعترضت مساره تظاهرات حزيران 1989 التي عرفت بالتظاهرات الطلابية كان مدركاً لحقيقة أن مطالبة هؤلاء بـ«الديمقراطية» في ظل سيادة اقتصاد السوق التي أرساها كان يعني حتماً خسارة الشيوعيين للسلطة، تماماً كما حدث مع الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف في موسكو، الأمر الذي كانت تلوح تباشيره في الأفق أثناء احتجاجات بكين، فكان القرار بـ«الجراحة».
أينعت ثمار الشيوعيين الصينيين تماماً بحلول العام 2010 الذي شهد تصنيف بلادهم كثاني اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة، وفي العام التالي لهذا العام الأخير سيطلق هؤلاء مشروع «الحزام والطريق» الذي لا تنقصه الواقعية ولا جموح الخيال، فالطموح هنا يرقى لأن تصبح بكين عقدة الاقتصاد العالمي، ولربما كان ذلك من بين ما تستحقه قياساً لما أنجزته في مدة قصيرة نسبياً وهي بالتأكيد لا تتجاوز نصف قرن من الزمن.
إذا ما كانت الأمور تقاس بالنتائج، فإن من الممكن الجزم بأن الطبعة «الماوية» للماركسية كانت هي الأكثر صوابية في مواجهة الطبعة اللينينية لهذي الأخيرة.