قبل بضعة عقود كان الركاب يغنون للسائق كي يحثوه على مزيد من السرعة: «يا شوفير دوس، دوس/ اللـه يبعث لك عروس/ شقرا وبيضا من طرطوس/ ما بتاكل إلا المكدوس» ولم يرد ذكر المكدوس في هذه الأغنية عفو الخاطر، بل لأن المكدوس كان أكلة الفقير المعدم في مدننا وقرانا إذ إنه يعادل «الزيتون والجبنة» الذي جاء على ذكرهما الكبير الحاضر أبداً، وديع الصافي، وهو يحاول أن يقنع ابنه بالزواج من ليلى ابنة ضيعتهم.
والمكدوس هو مزيج سحري من الباذنجان والجوز والفليفلة الحمراء والثوم والبكتيريا السورية، يرجح معظم الباحثين أنه تم (اختراعه) على أيدي سيدات حلب عاصمة اللقمة الطيبة.
يرجع وجود صاحب المعالي الباذنجان في جنوب وشرق آسيا لفترة ما قبل التاريخ، إلا أن أول نص مكتوب ورد فيه ذكر الباذنجان عثر عليه في الصين، وهو يرجع لعام 544م. لكن لا أحد يعلم على وجه الدقة متى انطلق معاليه في رحلته الميمونة لغزو العالم عابراً البراري والقفار، البحور والأنهار، الجبال والأغوار، ولا أحد يعرف على وجه الدقة متى وصل معاليه إلى ديارنا العامرة، لكن مدح الباذنجان وذمه وارد بكثرة في العديد من كتب التراث العربي مثل الإمتاع والمؤانسة للتوحيدي، والبخلاء للجاحظ، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والكامل في التاريخ لابن الأثير، وجلها يقارب عمرها الألف عام.
إلا أن الأوروبيين لم يعرفوا صاحب المعالي الباذنجان إلا في أواسط القرن السادس عشر، في مرحلة دخول العرب إلى الأندلس، ونظراً لأن الضعفاء يتلذذون بتناول طعام الأقوياء، مهما كان رديئاً، على أمل أن يصبحوا مثلهم، ودليل ذلك انتشار الأكل الأميركي الشنيع الذي يدعى Junk food الوجبات السريعة في كل أنحاء العالم، كان الأوروبيون آنذاك مبهورين بقوة العرب، لذا رسموا هالة أسطورية حول صاحب المعالي الباذنجان، فاعتبروه مُثيراً للباه يضرم نيران الشهوة في الأبدان المنطفئة، فتعاملوا معه بإجلال كنوع من فاكهة الحب، إذ كانوا يعتقدون أنه «يكفي أن يُطبخ الباذنجان مع البصل والثوم والفليفلة الخضراء ليكون مُهيِّجاً، وليكون من يتناولهُ مدينًا له بلذّة غير منقطعة. والحقيقة أن الدراسات المعاصرة تشيد بأهمية الباذنجان في الوقاية من السرطان وأمراض الأوعية القلبية، فهو يحتوي على نسبة عالية من الأحماض التي تساعد على قتل الميكروبات الشريرة المتفشية على الجلد وفي جهاز الهضم.
من المعروف أن الملحمة الباذنجانية المكدوسية تبدأ في بلادنا منذ أواسط الشهر الحالي وتمتد طوال شهري أيلول وتشرين الأول من كل عام لكن مكدوس الباذنجان تحول من حزام أمان غذائي للأسرة إلى مصدر تهديد وتجويع لها بسبب غلاء مكوناته، رغم أنها جميعها من الإنتاج المحلي. لذا أقترح عليكم ألا تتمنوا لـ«الشوفير» أن يبعث اللـه له عروساً من طرطوس لا تأكل إلا المكدوس، لأنه عندها قد يتدهور بكم أو ينزلكم من السيارة على الأقل.
ختاماً أود أن أذكرك أيها القارئ العزيز بحادثة لها شهرة ودلالة: قال الأمير بشير الشهابي حاكم جبل لبنان إبان الحكم العثماني لخادمه: «نفسي تشتهي أكلة باذنجان».
فقال الخادم: «الباذنجان! بارك اللـه في الباذنجان… هو أشهى المأكولات لحم بلا سمن يؤكل مقليا، ويؤكل مشويا ويؤكل محشياً ويؤكل مخللاً».
قال الأمير: «ولكني أكلته قبل أيام فنالني منه ألم في معدتي!»
رد الخادم: «الباذنجان! لعنة اللـه على الباذنجان… إنه ثقيل على المعدة… غليظ… ينفخ البطن… أسود الوجه… تصدر عنه رائحة كريهة!»
قال الأمير: «ويحك! تمدح الشيء وتذمه في وقت واحد!».
أجاب الخادم: «يا مولاي.. أنا خادم للأمير ولست بخادم الباذنجان! إذا قال الأمير نعم قلت نعم، وإذا قال لا… قلت لا!».
وما أكثر الباذنجانيين في دنيا العرب.