استيقظت سلطات أوكرانيا صباح أمس على أصوات العربات الروسية وهي تدخل منطقتي دونيتسك ولوهانسك شرق البلاد، بعد أن نامت أوكرانيا والعالم على قرار إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاعتراف باستقلال المنطقتين رسميا عن كييف، لتتسارع ردود الفعل، وتكثر التحليلات والتأويلات حول مستقبل المنطقة والصراع فيها، وفيما إذا كانت تلك الأصوات طبول حرب، أم ضغط روسي بالنار.
من المؤكد أن روسيا أدركت وتدرك أن مجرد الحديث مع المعتدي بلغة دبلوماسية، لم ولن تأتي أوكلها، وهو ما لمسته عبر المدة الفائتة من محادثاتها مع أميركا وحلف «الناتو»، وطلبها الدائم منهما بضرورة تقديم ردود واضحة حول الضمانات الأمنية التي تقدمت بها، لعدم تمدد «الناتو» شرقاً بما يحول دون الوصول إلى أسوارها وبما يشكل تهديداً لأمنها القومي، الأمر الذي بدا جلياً في تصريح نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري مدفيديف حين قال: «روسيا لم تستطع تحمل هذه الهمجية، لا جدوى من التحدث إلى المعتدي بلغة الدبلوماسية فقط، يجب مساءلته من موقع القوة»، قوة لا تعني بالضرورة التخلي عن السبل الدبلوماسية والحوار للوصول إلى اتفاق وحل يضع حدا للتصعيد الأوروبي- الأميركي ضد موسكو، ويوقف سلطات كييف عن أعمال عدوانية ضد لوغانسك ودونيتسك، فتقول الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا: «حتى في أصعب اللحظات، نقول نحن جاهزون لعملية التفاوض، لذلك، من جانبنا، يبقى الموقف كما هو، نحن جاهزون لعملية التفاوض، نحن دائما نؤيد استخدام الدبلوماسية».
رغم محاولة العديد من السياسيين والمحللين قراءة ما ستؤول إليه الأحداث في أوكرانيا، إلا أن المشهد بات أكثر ضبابية، وبات الحديث عما سيجري هناك أقرب إلى التنجيم، لتتعدد الآراء والتأويلات بين الذهاب إلى حرب، أو أن ما يجري ليس سوى سياسة روسية عبر الضغط بالحديد والنار، وفي إطار ذلك استبعدت صحيفة «نيويورك تايمز» في تحليل لها حدوث غزو روسي لأوكرانيا، قائلة: «من المستبعد حدوث الغزو الشامل، فقد يلجأ بوتين إلى وسائل خاصة أو غير متكافئة، بما في ذلك دفع الغرب للاعتقاد أنه يتحضر للهجوم».
تنصب جميع الأحاديث وحتى الانتقادات، في بوتقة القرار الروسي بإعلان استقلال لوغانسك ودونيتسك، وتوجيه الرئيس بوتين القوات المسلحة الروسية بضمان السلام في الجمهوريتين، في خطوة هي أقرب إلى الهروب إلى الأمام، عبر النظر إلى النتائج، وتجاهل السبب الرئيس الذي أوصل الأمور إلى ما هي عليه، وبأن ذهاب موسكو في قرارها ذاك ما كان لولا رصاصة واشنطن الطائشة في سماء أوكرانيا، وتحرش «الناتو» بالأمن القومي الروسي، للوصول إلى مصالح شخصية بحتة، حيث لا ينطلي على عاقل، أو مطّلع على جرائم أميركا وفرنسا وبريطانيا في دول العالم من أميركا الجنوبية إلى إفريقيا وآسيا، بأن «الحمية الغربية» تجاه أوكرانيا نابعة من دوافع إنسانية أو إيمان بالقيم البشرية، بل إن القصة برمتها مجرد حسابات إستراتيجية دفعت بهم إلى شن تلك الهستيرية على روسيا، مع بدء العد التنازلي لغروب شمس القطب الأوحد وشرطي العالم، وبهدف القضاء على الدور المتوازن الذي تقوم به روسيا في عالم اليوم، الأمر الذي أكده وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد بقوله إن: «التصعيد الغربي تجاه سورية وروسيا غير مفاجئ»، معتبراً ذلك «محاولة لوضع حد لموسكو التي تصدت للمحاولات الغربية للهيمنة على العالم، قبل أن تأخذ دورها التام في صياغة السياسات الكونية».
لا يمكن الحديث عما يجري من أحداث في بقاع الأرض على أنها جزر منفصل بعضها عن بعضٍ، بل إن الوقائع والتاريخ يؤكدان أن ثمة ترابطاً وتلازماً شبه كاملين بين جميع الأمور، فالحديث عن أوكرانيا يجر إلى الحديث عن سورية، وما تشهده من إرهاب واحتلال أميركي وتركي، وهما لا ينفصلان بشكل أو آخر عن الوضع في اليمن وإيران والمحادثات النووية، وعليه يجب عدم نسيان تأكيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً أن الأوروبيين بحاجة إلى تأسيس «نظام جديد للأمن والاستقرار» يستدعي عملية إعادة تسلح إستراتيجية، ومحادثات صريحة مع روسيا، الأمر الذي يكون قد دفع بالرئيس بوتين إلى التفاوض على تلك الإستراتيجية من موقع قوة، وصولاً إلى تلبية مطلب موسكو الأساسيين من الغرب وهما الوعد بعدم السماح لأوكرانيا أبداً بالانضمام إلى الناتو، وأن يسحب التحالف جميع قواته من الدول التي انضمت إليه بعد عام 1997.