أبحث عن كتاب (الحكمة) في كل مكان، أخذت أجوب المكتبات منقباً بين رفوفها، لعلي أجد كتاب الحكمة، ذهبت إلى أماكن عديدة، لقد طال ترحالي إلى بلدان مختلفة، طائراً حيناً ومبحراً أحياناً، وفي كل مكان كانت تهرع إليّ الجموع، تحاصرني.. ماذا تريد أيها الغريب؟.. وأشرح لهم مهمتي ورحلتي التي تطول من أجل المعرفة، أخاطبهم: (جئت باحثاً عن كتاب الحكمة)، وتنظر نحوي الوجوه في استغراب واندهاش.
كلما ذهبت إلى مكان باحثاً عن كتاب الحكمة يلتف من حولي الناس وتتغير وجوه البشر من مكان إلى مكان، وتضيق الدائرة وأكاد أختنق، ثم ينفض الرجال ويديرون لي ظهورهم في لامبالاة يتركونني وحدي، وتأتي إلى سمعي من بعيد أحاديثهم: (مجنون يبحث عن كتاب الحكمة).
أي حكمة يبحث عنها هذا المجنون؟
ويأتي أحدهم ومعه كتاب ضخم معنون: علم الإلكترونيات الحديثة، يقدمه لي قائلاً: هل هذا ما تبحث عنه؟ أنظر إليه نظرة اندهاش، أريد أن أحادثه، ولكنني لا أستطيع، أكتفي بتحريك شفتي وبإيماءة يفهمها الرجل، فيتركني ويذهب، ترنّ ضحكته وتملأ المكان.
المكان يمتلئ بضحكات هستيرية، يتقدّم مني غيره ومعه كتاب، أنظر إلى عنوان الكتاب.. أرتجف، ترتعد أوصالي: (علم صناعة القنبلة الذرية الهيدروجينية) تمتلكني رجفة شديدة، الأرض تدور بي، تهتز، أسقط، أفقد الوعي، بدأت أفيق من غيبوبتي، أجدني في مكان غير المكان، يتقدم مني أحد الشيوخ، يمسح جبهتي براحته، يبتسم، أبتسم له بدوري.. مسحة من الهدوء بدأت تتسلل داخلي، شيء من الراحة والطمأنينة يتسرب إلى نفسي.
هذا الرجل تشعر نحوه بالثقة والأمان، لعلّه حكيم تشرّب من الحياة حكمتها، أو ربما يكون قد قرأ كتاب الحكمة واستوعبه، آه ليته يخبرني عن مكانه، وأدرك الرجل ما يجول في خاطري قبل أن أنطق به، فبادرني سائلاً أتريد الحكمة يا بني؟
أخجلتني المفاجأة، بل أخرستني، أدار الرجل وجهه واتجه نحو خزينة الكتب، أخرج منها كتاباً ضخماً وقرّبه مني، ها هو يا ابني الكتاب، هل تستطيع أن تحافظ عليه، تقدمت منه بفرحة لا وصف لها، فرحة أكثر من فرحة من عاش حياته يحلم حلماً كبيراً، ثم فجأة وجد الحلم حقيقة.. ابتسم الحكيم قائلاً: (لا تندفع يا بني، تمهل، تروَ، عدني فقط أنك ستحافظ على كتاب الحكمة وتعمل بما فيه)، أكدت له وعدي وتناولت الكتاب، ثم استأذنته بالانصراف.
ابتسم الرجل ابتسامة أضاءت وجهه وأشرق قائلاً: لك ما تشاء.
عندما خرجت إلى الساحة وسرت في طريقي، تعثرت قدماي، سقطت، وقع من يدي كتاب الحكمة.. انفرط عقد الكلمات، تناثرت، أخذت الرياح معها صفحات الكتاب، وبعثرتها في كل اتجاه، أخذت ألملم الكلمات ولكنني لم أستطع أن أكون منها جملة مفيدة.