مع الساعاتِ الأخيرة لشهرِ رمضان المبارك، أفطرَ العالم على صورِ زعيم النظام التركي وهو يؤدي العمرة على أرضِ الحرمين الشريفين خلال الزيارةِ الرسمية التي يقوم بها إلى المملكة العربية السعودية، صاحب الوعد الشهير لأتباعه من المتأخونين بالصلاةِ في الجامع الأموي بعدَ سقوط «النظام السوري»، فضَّلَ العُمرة على الحج، لأن ما مِن جَمَراتٍ فيها تُرَدُّ إليهِ إن أرادَ رجمَ الشيطان، فبوجوده يصبح الجحيم فارغاً والشياطين كلها هنا! وإن كانَ من نصيحةٍ نقدُّمها للإخوة في المملكة العربية السعودية، احتفظوا بأردوغان وضعوهُ في «جمرةِ العقبة» حتى يختتم حجاج بيت الله بعدَ شهرين ونصف هذه الشعيرة وهم يعرفون أيَّ إبليسٍ يَرْجُمون!
فشلَ بالصلاة في الجامعِ الأموي، فقررَ ممارسةَ التقية حيث الحرمانِ، لم تنجَح كل الأكاذيب التي حاولَ نظامهُ تسريبها عن قربِ «المصالحة» مع سورية التي وقعَ في مطبِّها كثيرون، بل بدؤوا برسمِ سيناريوهاتٍ لما هو آتٍ يصبحُ فيها أردوغان شريكاً في الحلول، ظنَّ بأنَّ رميَ إسفينٍ إعلامي بين القيادة السورية وشعبها بالحديثِ عن شراكةٍ محتملة في مكافحةِ الإرهابِ، هو حبلَ نجاةٍ ستفتح المعركة على مصراعيها تجاهَ حزب العمال الكردستاني، لتبدو التنظيمات الإرهابية التي يرعاها في الشمال السوري وكأنها حمامات سلام، لكن في النهاية ما لم يفهمه هو وغيره أن القيادة في سورية لا يمكن لها أن تجعل من السوريين سلعة رخيصة للمتاجرة بها مع أمَّعة كأردوغان، مشكلة حزب العمال الكردستاني كتنظيمٍ إرهابي هي مشكلة تركية وليست سورية، في سورية الوضع مختلف فهناك ثلة مرتهنة للأميركي هم من يقود الخيارات الخاطئة ضد شعبهم وبلدهم، هؤلاء ورغمَ ما اقترفت أيديهم لكن ببساطة لا يمكن للقيادة السورية أن تسمح لرعاةِ الإرهاب المتأسلم أن يكونوا شركاءَ في الحربِ ضدهم أو المفاوضات معهم ليجعلوا تصدير الأزمة إلى سورية خطوة في اتجاهِ تلميع أردوغان من جهة، وصب الزيت على النار بين القيادة السورية وأهلنا السوريين الأكراد من جهةٍ ثانية، فلا السوريون الأكراد هم حزب العمال الكردستاني ولا السوريون الأكراد هم أساس المشكلة في الارتهانِ للأميركي ليتم عقابَهم جماعياً، كما أن مرسوم العفو الذي أصدره الرئيس بشار الأسد بالأمس جاءَ ليغلق الكثير من الأبواب، فما من سوري اليوم يحمل صفةَ الإرهابي إن لم يكن متورطاً بالقتل مباشرةً.
نهاية الدراما الرمضانية التي باتت كسوق نخاسةٍ سلعتها الأفكار لا الجواري ولا الغلمان، لم تحمِل لأردوغان ما يريدهُ من مشَاهِد تُعيد تعويمه من جديد، تحديداً بالحصول على دورِ المنقذ، فبدأ يلهث للملمةِ خسائرهِ لكنه باتَ مكشوفاً في البعد الاستراتيجي باتجاهين:
الاتجاه الأول، وضعَ عنبهِ كاملاً في سلةِ الإسرائيلي، إذ لم يكن عن عبَثٍ اضطرارَ أردوغان للخروجِ بالعلاقة مع إسرائيل إلى هذهِ العلنية في التطبيع، ربما من «الحسناتِ» التي يعتمدها الكيان الصهيوني في طريقةِ إدارتهِ لملفِ الراغبين في التطبيعِ معه عدمَ القبول بأنصافِ المواقف، حتى في طريقةِ تعاطيهِ مع أيتام المعارضات السورية كان اشتراطَ دعمهِ لهم هي العلنية ليسَ في الزيارات فحسب بل وعود توقيع اتفاقيات سلام، هناك دول كثيرة طبَّعت مباشرة أو غيرَ مباشرة عبر التطبيع مع الأميركي، لكنها لا تبدو مضطرة لبيع المواقف ولا المتاجرة في القضية الفلسطينية، على هذا الأساس شعر الإسرائيلي بدنو أجل أردوغان سياسياً فحاول ابتزازهُ حتى في الموقف من بعض التعابير الملتبسة أو مثار الخلاف، هو لا يقبل من أردوغان أنصاف المواقف من مفهومِ المقاومة وصولاً إلى حل الدولتين، لذلك بدا الاحتفاء الأردوغاني بالعلاقات التاريخية أشبه باحتفال النصر، لكونه بحاجةٍ ماسة لمثل هكذا دفعاتٍ معنوية ومادية.
كان النظام التركي يرتكِز دائماً على فرضيةِ أنه ورثَ هذه العلاقات وليسَ المسؤول عنها، هو يعي تماماً بأنَّ الثمن صعب لكنه يُدرك بأن أتباعه من الإخونجية الذين بايَعوه خليفة، سيلاحقونهُ بالتبريرات ولن يقتلوه بطعنةِ خنجر، فاللوحة التي تتوسط قطاع غزة التي تنتظرهُ كأحدِ رجال القدس، ما زالت حماس تدافع عنها، ربما لا يمتلكون ثمن تعديلها بانتظارِ المساعدات القطرية القادمة، لكن من قالَ إن المساعدات ستبدل المواقف؟ على العكس فقد تكون مُعَدَّلة بإضافةِ فتوى لشيخ الفتنة يوسف القرضاوي وهو يُظهر لنا الخليفة بحالةِ الجنوح إلى السلم، لماذا لا يكثر شيوخ الفتنة من الفتاوى طالما أنهم كما رجب طيب أردوغان يستندون لكذبة: إن اجتهد فأخطأ فلهُ أجر!
الاتجاه الثاني وهو العلاقة مع المملكة العربية السعودية، في الحقيقة لا يجب النظر إلى هذه الزيارةِ إلا من بابِ الخضوع الذي يمارسه أردوغان في الأسابيع الأخيرة وإن كان يمارسه بواقعيةٍ يُحسد عليها، هذا الكلام لا نقولهُ من باب التشفي بأردوغان بقدرِ ما هو حقيقة تعكس تصريحاته المتكررة منذُ بداية ربيع الدم العربي، أليسَ مستشاره المقرَّب من كتبَ مقالاً هاجم فيه السعودية ووصف أبناءها بـ«كفار قريش» بعدَ حملة المقاطعة للبضائع التركية؟ ألم يقل أردوغان ذاتَ نفسه ردَّاً على حكام السعودية: «إنهم يعتقدون أن العالم غبي، لكن الأمة التركية ليست غبية وتعرف كيف ستحاسبهم»؟! أو بالنسبةِ للخليفة وأحلامه التي لا تعد ولا تحصى في إطارِ استرجاعِ مُلك أجدادهِ القَتَلة «بني عثمان»، إذ كان حلم استعادة السيطرة على الأماكن المقدسة هو جوهر العلاقة التي تربط نظرته بحكام المملكة العربية السعودية، لأنَّ هذا الاسترجاع يعني ما يعنيهِ من زعامةٍ للعالم الإسلامي لكون جدّهِ المأفون السلطان سليم الأول حملَ لقب «خادم الحرمين» بعدَ أن قدمَ له شريف مكة بركات بن محمد، مفاتيح الأماكن المقدسة بعدَ سقوط دولة المماليك، ليس هذا فحسب بل إنه كان يطمح لمعاقبةِ الحجازيين الذين رآهم قد تآمروا على الحكمِ العثماني لإسقاطهِ، هو جزء من الأحلام التي راودته وكان ممرها الأول إسقاط سورية لكنه فشل، وربما لو كان «سيغموند فرويد» لا يزال حياً بيننا لأخذَ من الطموحات الأردوغانية أمثلة حية عن مفهوم «أحلام اليقظة السلبية»، اليوم وضع أردوغان كل ذلك جانباً، عادَ ذليلاً ضارباً بتهديداته عُرضَ الحائط، واهم من يظن بأن شخصاً كأردوغان يفعل ذلك من منبع القوة! هي نقطة تُسجَّل لحكام المملكة العربية السعودية مهما حاول الإعلام التركي، ومن خلفه المتأخْوِن، إظهارَ وصول أردوغان كما لو أنه فاتحاً للأماكن المقدسة.
لكن في النهاية هناك من قد يرى بأنَّ الضعف الأردوغاني وعودة الانفتاح العربي عليه قد يصب في المصلحة السورية، أليست عودة العلاقات السورية مع تركيا هو أمر في مصلحةِ الجميع؟
هذا السؤال أراهُ جزءاً من المزاودةِ على القيادةِ السورية لا أكثر، دعونا مبدئياً نميز بين عودة العلاقات مع الدول العربية وعودة العلاقات مع تركيا، عودة العلاقات مع الدول العربية هي حاجة في اتجاهين سوري وعربي، ففي سورية كنا ولا نزال نكرر عبارة أن لا بديلَ لنا من عمقنا العربي، أياً كانت التحالفات والصداقات، أما في العلاقة التركية فإن البعض يتجاهل ربما أن سورية هي من فتحت الباب لدخول تركيا العالم العربي، رغم أن هناك أصواتاً داخلية طالبت يومها بفرملتها تحديداً بما يتعلق بالمعاهدات الاقتصادية لأنها أضرت بالصناعة المحلية، لكن ركبَ العلاقة سارَ بهدوءٍ هل ارتكبنا خطأ أم لا؟ ليس هذا موضع النقاش لكن النقاش بأن سورية لم توفر جهداً يحمل الأمن والأمان للشعبين التركي والسوري، وهذا ربما ما كانت تسعى إليهِ في السابق من خلال الانفتاح على تركيا، أما اليوم فالقصة تبدو مختلفة وبمعنى آخر فإن عودة العلاقات مرهون برحيلِ هذا النظام المجرم، هو ليسَ شرطاً تضعهُ القيادة السورية لكنه مسار حتمي للعلاقةِ بين الدول، على الأتراك أن يتخلصوا أولاً من العبء الذي ألقاه عليهم السلطان الأهوج وطموحاتهِ المريضة، أما سورية فبابها مفتوح دائماً لكل شقيق وصديق يحترم سيادتها ووحدة أراضيها ويحترم ما قدمته وتقدمه نيابة عن العالم أجمع في أقذرِ معركةٍ لم تخترها، لكنها خيارات الشياطين التي أبَت واستكبرت، غادرت الجحيم لتجعل من كلِّ مكانٍ تصل إليه طموحاتها، جحيماً.