تؤكد جميع تحركات الأميركي العسكرية منها والسياسية، في مناطق سيطرة ما تسمى «الإدارة الذاتية» الكردية الخاضعة لسيطرة ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية-قسد»، أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن قررت تحشيد جهودها، وإعادة ترتيب أوراقها فيما يخص تلك المنطقة وعلاقتها بـ«قسد»، وذلك على خلفية الضغط الروسي باتجاه إيجاد تقارب بين الميليشيات ودمشق من جهة، وبين دمشق وأنقرة من جهة أخرى، ليبقى السؤال إلى أي مدى يمكن أن ينجح الأميركي في جمع طرفي النقيض الكردي «حزب الاتحاد الديمقراطي – PYD»، المهيمن سياسياً وعسكرياً على مناطق «الإدارة»، و«المجلس الوطني الكردي» الموالي للنظام التركي، وهل يأمل فعلاً باصطياد السمك من المستنقع الكردي، أم يهدف من وراء رمي صنارة صيده إلى تعكير المياه الراكدة في تلك المنطقة، والتشويش على الآخرين وحرمانهم من الحصول على أي صيد في البيئة الكردية تلك؟
الحراك الأميركي على طرقات الأحزاب والمكونات الكردية في الشمال السوري، ليس جديداً، كما أنه ليس الأول من نوعه، حيث لم يأل ما يسمى المبعوث الأميركي السابق إلى مناطق «الإدارة الذاتية» ماثيو بيرل جهداً لجمع «قسد» و«المجلس الوطني الكردي» و«أحزاب الوحدة الوطنية الكردية» بهدف استئناف المفاوضات الكردية المتعثرة منذ نهاية عام 2020، ولكن دون الخروج بأي نتائج، والفشل الأميركي ذاك ليس الوحيد أيضاً في إطار إيجاد قوى ومكونات حليفة لها في المنطقة، إذ حاولت الاعتماد على العشائر العربية وفشلت، وحاولت تشكيل مجلس عسكري بدير الزور والرقة وفشلت.
حراك واشنطن الحالي عبر مبعوثها الخاص الجديد إلى مناطق «الإدارة الذاتية» نيكولاس جرانجر الذي تم تعيينه في نهاية الشهر الماضي، يسعى التوصل إلى تقارب بين «قسد» والنظام التركي، بهدف إصابة أكثر من عصفور بحجر واحد.
أولا: إزالة هواجس الخوف المتبادل بين الميليشيات ونظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بما يفضي إلى إقناع الأخير بعدم شن أي عدوان على مناطق «قسد» ودفع الميليشيات إلى التوقف عن مهاجمة أي مصالح أو نقاط تركية، وصولاً إلى تفاهم وتقارب بين الطرفين.
ثانياً: قطع الطريق على الخصم الروسي في قضية الجهود التي تبذلها موسكو للتقريب بين دمشق وأنقرة، وقطع الطريق على تقارب دمشق مع «قسد»، إذ إن توصل الحكومة السورية والميليشيات إلى تفاهمات حول انتشار الجيش العربي السوري في الشمال الشرقي، وحصول دمشق على ثروات المنطقة يمكن أن يؤدي إلى متغيرات جديدة في الوضع السوري برمته.
ثالثا: تملك واشنطن مشروعاً قديماً- جديداً يهدف إلى ربط ما تسمى مناطق «المعارضة» بعضها مع بعضٍ ومن ضمنها مناطق «قسد»، وتفاهم الميليشيات مع النظام التركي، سيؤدي إلى خلق منطقة فيدرالية في شرق الفرات حتى إدلب وعفرين تكون تحت سيطرة الاحتلال الأميركي، وذلك بهدف مد خطوط أنابيب النفط والغاز من إقليم كردستان العراق إلى تركيا وأوروبا ليكون بديلاً من الغاز الروسي.
هل تنجح واشنطن في إحداث خرق جديد في مسألة المصالحة والحوار الكردي- الكردي؟ المعطيات تقول إن الأمر ليس بتلك السهولة التي يتوقعها أو يرجوها الأميركي، وذلك لسبب بسيط وأساسي وهو حجم التناقضات في المصالح الخاصة وأهداف كل طرف من أطراف المكون الكردي، وعدم استعداد أي منهم للتخلي عن أي مكاسب أو امتيازات يملكها من أجل الطرف الأخر.
ما سبق من حديث ليس ضرباً في الرمل، بل إن تاريخ محاولات واشنطن مع جمع الأطراف الكردية- الكردية يؤكد ذلك، وما يثبت ما ندعيه من أن الإدارة الأميركية تنفخ في قربة مثقوبة «اسمها وحدة المكون الكردي»، وما صدر بالأمس من اتّهام رئيس حزب «الاتحاد الديمقراطي»، صالح مسلم، «المجلس الوطني الكردي» بالتبعية للنظام التركي، وقوله لوسائل إعلام معارضة: «في جميع المفاوضات التي أجريناها مع المجلس الوطني الكردي، عجزنا عن إقناع قياداته بأن تركيا هي دولة محتلة لأجزاء من شمال سورية».
مسلم وضع صخوراً وألغاماً قد يصعب تفكيكها، أقله في الوقت الراهن، في طريق الحوار الذي تسعى واشنطن لشقه بين مقرات الأحزاب الكردية، عندما اتهم «المجلس الوطني الكردي» بالتورط مع شبكة جواسيس كبيرة كانت تتعامل مع تركيا، وتسببت في مقتل العشرات من المدنيين والمسلحين ومن قادة «قسد»، وهذا يكفي لأن يؤكد بل يجزم أن الأميركي يؤسس بناء «الحوار الكردي» على رمل، ولن يستطيع تجاوز مرحلة الحراك والمحاولة على طريق تشي جميع المعطيات أنه غير سالك من الأمتار الأولى.