The oathofcyriac الفيلم الفرنسي للمخرج أوليفييه بورجوا، واحد من الأعمال الفنية التي تسجل أمرين في وقت واحد، الأمر الأول ما تمثل في الكوارث الحضارية التي قام بها المتطرفون والإرهابيون، حيث استباحوا أول ما استباحوا الإرث الحضاري والتاريخي لسورية، والمتمثل بالحواضر التراثية التي تعدّ جزءاً من التراث الإنساني والمتحفي العالمي، فكانت الكوارث التي نالت تدمر وحضارتها وآثارها، وما تبقى من أعمدة ومعابد وعبق زنوبيا العظيمة، وما حدث في متحف حلب من اعتداءات صارخة تستهدف ما يحتفظ به متحف حلب من آثار وكنوز، وحين نتحدث عن حلب، فإننا نتحدث عن منطقة غنية بالآثار والمتاحف والتاريخ، عن منطقة حدودية كانت عبر التاريخ عرضة للنهب، وفي الحرب الكونية على سورية كانت حلب بمختلف مناحي الحياة عرضة للنهب. وفي الجانب التاريخي والآثاري كانت الجريمة أكبر، والغاية أبعد وأعمق.. وثاني ما استباحوه الإنسان بصفتيه الوجودية والحضارية، بصفته كائناً يجب أن يتم التخلص منه، ومن رعايته للإرث الحضاري، ومن كونه سليل هذه الحضارة والحامي لها من غدر الزمن.. المخرج أوليفييه بورجوا في هذا الفيلم يتناول بتقنية عالية، وسينما متطورة هذين الجانبين، ويعطيهما أولوية خاصة، فمن جانب كان المتحف محزناً للحضارة والتاريخ، ومن جانب آخر كانت البطولات الخارقة للإنسان السوري صاحب الحضارة، والحامي للمتحف وتاريخه، ورأينا هذا الإنسان في مرتبة عليا من البطولة، وقد وصف الإنسان السوري في هذا الفيلم، وكأنه بطل شعبي، ومفهوم البطل الشعبي يقترب من الأسطرة، وقد يضعه كثيرون في خانة عدم التصديق مع أن مفهوم البطل الشعبي هو أسطورة لها أساس في الواقع تقوم عليه، ومفهوم البطولة الشعبية كما جاء في الفيلم تتجاوب مع المصطلح، فالبطل الشعبي هو ضمير الشعب، ليس فردياً من صنع كاتب، بل هو ضمير الشعب، ويحمل الفكر الجمعي للمجتمع، وكم من مرة قرأنا وسمعنا وشاهدنا، وبعضنا ظنّ أن هذه البطولات غير قابلة للتصديق، ولكن عندما نضعها في إطارها الشعبي، وفي خانة الذاكرة الشعبية يتغير الأمر بصورة كبيرة.
المخرج بحرفية عالية ربط بين المتحف والآثار والمجتمع والأبطال، وهؤلاء الأفراد استبسلوا من أجل الآثار وقطع المتحف ومقتنياته لعدة أسباب أولها ما يتعلق بالآثار والتاريخ، وأهمها ما يتعلق بالذاكرة الشعبية الجمعية التي جعلت الشخصيات يتمتعون بهذه البطولات الخارقة.
صورت أعمال سينمائية ودرامية عديدة ما جرى على الأرض السورية خلال سنوات الحرب عليها، وهذا التوثيق لا يستطيع إدراكه وإدراك أهميته إلا من عاش على الأرض ورأى بنفسه، وربما عاين وعاش واكتوى.. ومع ذلك نجد من يصف بعض الأعمال بالمبالغة في تصوير ما حدث على الأرض، فما بالنا إن كان الذي يتابع من الذين لم يروا شيئاً مما جرى؟
وهذا التعاون الوثيق بين المخرج والمديرية العامة للآثار والمتاحف يقدم فيلماً مختلفاً، فالجهة المعنية بالآثار هي التي تقدم المعلومة والتسهيلات، وعين محايدة تدرك قيمة الصورة والسينما هي التي عملت على المادة الدرامية والتوثيقية لتقدم عملاً مهماً، يتوجه من خلال عرضه اليوم، وعرضه محلياً فيما بعد إلى الجمهور السوري ليجلو له الحقائق التي لم يعرفها من قبل، أو كان بعيداً عنها، ولتقنع المرجفين المترددين بأن شخصاً محايداً استطاع أن يرى ويقدّر ما ألَمَ بمتاحفنا وإنساننا، ومن باب أوْلى أن نتابع ونقدر ما حصل على أرضنا من شذاذ الآفاق الذين لا تعنيهم الحضارة والآثار، والذين يرونها مجرد حجارة وأصنام، وينفذون ما أراد لهم ممولوهم في طمس الحضارة السورية. وأهمية الفيلم ليست من شهادة غريبة غربية، بل فيما سيقدمه المخرج وفيلمه للمجتمع الغربي والفرنسي من معلومات مهمة غابت عنهم، وخاصة في ظل حملات حكوماتهم ضد سورية، ووقوفها طرفاً في الحرب على سورية، يأتي هذا الفيلم بتقنياتهم وخبراتهم ولغتهم الفنية ليقدم حقائق يجهلها المتابع الأوروبي عما جرى على أرض الواقع.
لا بد من توجيه الشكر للمخرج على جرأته في اقتحام عالم درامي توثيقي لقضية آمن بها، تتعلق بالحضارة السورية والحضارة الإنسانية، وللمديرية العامة للآثار والمتاحف لأنها تسجل وثيقة لما جرى مع المقتنيات، ودور الإنسان في الحفاظ عليها، والشكر للأمانة السورية على رعايتها لعرض الفيلم على الجمهور.
ما جرى على الأرض السورية درامياً وتوثيقياً لا يكفيه ما تم تقديمه من أعمال سورية مخلصة كالتي قدمها مبدعونا السوريون نجدة أنزور وأيمن زيدان وجود سعيد وباسل الخطيب وسواهم، أو ما تم تقديمه في أعمال تحمل صبغة عالمية كهذا الفيلم، ونحن بانتظار الأعمال التي تكشف ما حصل إنسانياً وحضارياً، وخاصة الأعمال التي تخاطب الآخر، وتبرز له الجريمة، وتصور له حقيقة الإنسان السوري الذي تجاوز المعقول في بطولته ووطنيته وانتمائه.