لا أدري عدد المرات التي قرأت فيها كتاب (المعاصرون) لمحمد كرد علي رئيس مجمع اللغة العربية والمؤسس له، ولا أذكر أنه يمر أسبوع لا أعود إلى كتبه المحققة أو المؤلفة أو المذكرات، وفي كل مرة أكبر هذا العالم الجليل، وأكتشف مقدار جهلنا بأعلامنا، وأسباب فقرنا الشديد في أبواب الثقافة والمعرفة والحضارة..!
قرأت أول ما قرأت (خطط الشام) وقرأت له عن الغوطة أفضل ما كتب، وهو المنتسب إلى الغوطة، وفي كل مرة تصبح الصورة أكثر جلاء، وحين أردت أن أقيم له ندوة خاصة قبل سنوات، اتفقنا على أن تكون لائقة وجامعة.. وأذكر، وذكرت ذلك مكتوباً في حينه أنني راسلت وخاطبت وهاتفت رئيس المجمع آنذاك وأمينه، وكل ما وعدا به لم تتم الإجابة عنه، ومن منطلق الصداقة ثبتّ وجود المجمع من خلال صديقي وابن دفعتي الجامعية، الدكتور عبد الناصر عساف، وعقدت الندوة، وكانت مهمة، خاصة في غياب أي مشاركة للمجمع، حتى في الحضور، عدا الدكتور عساف على المنصة، وقد أخبرني أمين المجمع يومها بأن المجمع في 2019 سيحتفل بالذكرى المئوية ويقوم بتكريم الرئيس المؤسس، وطلب التريث وبحسّي الخاص الذي أتبعه أدركت يومها غياب الرغبة في المجمع عن المشاركة والتكريم، ولمن؟
لمحمد كرد علي المؤسس الذي لولا أفكاره ما كان المجمع الذي يتصدرون مشهده!
بالأمس وفي جلسة متصلة من الفجر أنهيت قراءة كتاب (المعاصرون) واستوقفتني فيه قضايا لعلها تجيب عن الذي أبحث عنه، فرئيس المجمع الأسبق الدكتور حسني سبح عام 1976 أقام احتفالاً بميلاد الرئيس المؤسس، وحين أحضر ابن كرد علي طريف مخطوط (المعاصرون) يقول سبح بأنه أحيل إلى عدد من الأعضاء، لم يذكرهم للأسف، واعتذروا عن ترتيبه وإعداده لمشاغلهم! فاضطر رئيس المجمع للاستعانة بالأستاذ المحقق محمد المصري، الذي قام بالمهمة على أفضل وجه، ومحمد المصري رحمه الله محقق راحل، وهو من المخلصين وله تحقيقات مهمة مثل (البلغة) للفيروز آبادي، و«الكليات» للكفوي، وكان عماد مديرية التراث مع الراحل الدكتور عدنان درويش رحمه الله، وقد استفدت من كليهما وعلمهما.
والسؤال المهم: كيف لعضو في المجمع أو أكثر كما ذكر الدكتور سبح، ولست أنا، أن يعتذر عن الاعتناء بكتاب الرئيس المؤسس؟! وأي مشاغل تمنع عالماً أن يحتفي بواحد من مراتب عليا في العلم والفضل؟!
إلا إذا كان لا يحبه، أو لا يتفق معه في الآراء، أو يراه مرتبطاً بدوائر مشبوهة!!
أنجز الكتاب المهم الذي أعطانا معلومات نادرة عن أزيد من مئة شخصية، قرأنا عن شوقي وحافظ والبارودي وأنستانس الكرملي، لكننا قرأنا مقالات ودراسات خرساء جامدة، وقرأنا عن محمد عبده والكواكبي وشبلي شميل، ولكنها مقالات لا تحمل روحاً، وعن مستشرقين مثل المجري جولد صهر، لكنها مقالات ناقدة غاضبة.. أما في كتاب (المعاصرون) نقرأ لكاتب عالم، له مكانته، وهو على علاقة ولقاء مع كل الذين عاصرهم، ويصدق حين يقول لقيت البارودي وإسماعيل صبري مرة واحدة في بيت الإمام محمد عبدة في عين شمس، ولقيت شوقي وحافظاً في المقاهي والبيوت، في دمشق والقاهرة.. وحين نقرأ ما كتبه عن المعاصرين نقف عند لقطات حصيفة، لم تمنعه الصداقة من إبراز السلبي عند صديقه، ولم تحجب العلاقة السيئة بينه وبين إنصاف الآخر، فالكرملي كان صديقه، لكنه كشف عيوبه، وإن حاول تسويغها، والرصافي على خلاف معه ومع هجائه، وهذا لم يمنعه من وضعه في مرتبة الفحول.
في كتاباته كلها كان كرد علي طبيعياً غير متقعر ولا متكلف، وكان منصفاً ومعبراً عن رأيه، وربما كان هذا من الأسباب التي جعلت بعض المجمعيين الأجلاء يعزفون عن العناية بالكتاب، وحسناً فعلوا، ليصدر الكتاب طبيعياً لا ترهقه الحواشي والإضافات.
«المعاصرون» سِفر جليل يظهر أي نوع من العلماء والرجال كان محمد كرد علي، ويظهر لنا الأسباب التي جعلت هذا المجمع مقصداً لشوقي وحافظ وغيرهما من الكبار.
في تلك الندوة حاول أحدهم أن ينال من محمد كرد علي وأن يحلل، وهذا مثبت في الكتاب، لكنه عجز، فما قدّمه محمد كرد علي لسورية، وللعربية، وللمجمع أكبر من أن يقترب من سموه أحد، وعشرات الرجال لو اجتمعوا لن يكونوا بهذا العمق والامتداد الأفقي.
ملاحظتي الأخيرة تتعلق بالعجب الذي يتملكني وأنا الطالب من هذه الموسوعية والمعرفة حين تأتي سطور في كل ترجمة لتظهر أن كل هؤلاء عرفهم كرد علي وحاورهم وأخذ عنهم وأخذوا عنه..!
أي نوع من الرجال والعلماء كان؟!
لكنه بقي وذهب الآخرون، بقي العمل وغاب المنتقصون.