شهد صيف العام الماضي توتراً ما بين أنقرة وفصائل «قسد» التي تتهمها الأولى بتهديد «أمنها القومي» ثم تكيل لها شتى الاتهامات بالارتباط العضوي مع منظومة «حزب العمال الكردستاني» ذي النزعة الانفصالية التي يعمل من خلالها على اقتطاع أجزاء من الجغرافيا التركية لإقامة «دولته» عليها جنباً إلى جنب مع أجزاء من إيران والعراق وسورية، وفي الأتون، راحت أنقرة تعلّي من تهديداتها بشن عملية عسكرية تهدف من خلالها إلى إبعاد «قسد» عن حدودها الجنوبية لمسافة لا تقل عن 30 كيلومتراً، لكن تلك التهديدات اكتسبت «مشروعية» إضافية بعد تفجير اسطنبول في الـ13 من تشرين الثاني من العام المنصرم وكان المتهم فيه «حزب العمال الكردستاني» وفق مصادر رسمية تركية، الأمر الذي دفع بكل من واشنطن وموسكو للسعي من أجل احتواء الأزمة وكبح جماح أنقرة العسكري، ليبرز من خلال الفعل مشروعان أحدهما أميركي والآخر روسي، ففي الوقت الذي ذهبت فيه موسكو نحو محاولة «تربيع» أضلاع «أستانا» عبر إضافة الضلع السوري إلى ثالوثه الذي عرف به منذ قيامه ما يتيح، أو يعطي فرصة، لإنضاج تسوية سياسية «جزئية» للأزمة السورية بعيداً عن إرادة الغرب، في الوقت ذاته ذهبت واشنطن نحو محاولة تقريب «جغرافي» طالما أن نظيره الإيديولوجي غير ممكن ما بين الشمال السوري والشمال الشرقي، الخارجين عن سيطرة سلطات الدولة السورية، ما يشكل القاعدة الأساس في ذلك التقارب الذي جهدت واشنطن، ولا تزال، لقيامه، ومن المؤكد أن منظومة «الإدارة الذاتية» القائمة كسلطة أمر واقع، في شرق الفرات، كانت تميل إلى هذا «الذهاب» الأميركي لاعتبارات عدة أبرزها أنها تجد بقاءها مرتبطاً بتنفيذ الإملاءات الأميركية، بل ومرتبط أيضاً بالهوامش التي ترسمها واشنطن لتلك المنظومة التي تطول أدق التفاصيل، لكن الفعل بقي بين أخذ ورد قياساً لأن الربط «الجغرافي» آنف الذكر يحتاج بالضرورة إلى موافقة تركية بدت صعبة المنال في ظل الانزياح الذي راحت ترسمه مواقف أنقرة تجاه دمشق.
اكتفت منظومة «مجالس سورية الديمقراطية – مسد» وذراعها العسكري «قوات سورية الديمقراطية – قسد» عشية الزلزال السوري بإصدار برقيات التعزية والبيانات الإعلامية التي أبدت إحداها استعدادها لـ«تقديم أي مساهمة في مجال الصحة والمستشفيات والرعاية»، واستعدادها أيضاً لـ«استقبال المتضررين من خارج مناطق سيطرتنا»، وعلى الرغم من أن خروج الفعل عن حيزه «الإعلامي» كان يتطلب إعلاناً مباشراً عن فتح المعابر مع مناطق سيطرة الحكومة السورية لكسر طوق الحصار عنها ودعمها لوجستياً عبر المساعدات التي ما انفك الغرب يغدقها عليها، إلا أن البيان الذي صدر باسم «الإدارة الذاتية لمقاطعة عفرين» افتضح المرامي والغايات التي ظلت تدور في منحاها السابق الذي يسعى نحو تعميق الشرخ ما بين شرق والفرات وغربه، فهو، أي ذلك البيان، دعا «المنظمات الدولية والجهات الإنسانية إلى فتح الطرقات إلى منطقة الشهباء» التي يقصد بها الأحياء الحلبية التي يقطنها أكراد.
كان ذلك في اليوم التالي لحدوث الزلزال، أي يوم 7 شباط، وبعد يومين، أي في 9 شباط، تحركت أذرع «الإدارة الذاتية» باتجاه الاستثمار في الحدث وإظهار تأييدها المطلق للمشروع الأميركي في مواجهة المشروع الروسي – السوري، ومما تشير إليه هذه التصريحات التي سنذكرها تباعاً، يقول القيادي في «الإدارة الذاتية» جوان ملا إبراهيم إن «شحنة مساعدات إنسانية موجودة الآن على معبر أم جلود (المحاذي لمدينة جرابلس) وهي تنتظر الموافقة من الجانب الآخر (التركي) لإرسال المساعدات إلى المناطق المنكوبة» التي يقصد بها بالتأكيد مناطق إدلب ومحيطها، ويقول مسؤول آخر إننا «مستعدون لإرسال قوافل طبية وأدوية وأطباء وآليات إلى المناطق المتضررة في الشمال السوري»، أما الرئيسة المشتركة لـ«الهيئة التنفيذية للإدارة الذاتية» بيريفان خالد، فقد ذهبت إلى إيضاح أكبر للصورة حين قالت «يمكن اعتماد مناطق الإدارة كمعابر للمساعدات الإنسانية»، ومن الواضح أن عملية بسيطة للربط بين تلك التصريحات ستفضي إلى تأكيد انخراط «الإدارة الذاتية» بالمشروع الأميركي القائم على محاولة ربط المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية بعضها ببعض، ويفضي أيضاً إلى الانصهار التام مع التوجه الأميركي الذي يفرض حصاراً تاماً على مناطق سيطرة الحكومة في الوقت الذي يجري فيه التغاضي عن أي تحرك يجري في الشمال والشمال الشرقي من سورية، ولا حاجة هنا للتأكيد في أن ذلك التوجه يذهب في مراميه البعيدة باتجاه «حفر خنادق» ما بين أحشاء الجسد السوري الذي يعاني أصلاً من قلق يمكن تسميته بـ«قلق التكوين» الناجم عن اقتطاعات «سايكس بيكو – 1916» التي أفقدته فلسطين ثم شرق الأردن ولبنان، وصولاً إلى اقتطاع لواء إسكندرونة – 1939 الذي تلاه احتلال الجولان العام 1967.
هنا، يمكن القول إن المؤتمر الصحفي الذي عقده أبو محمد الجولاني متزعم «هيئة تحرير الشام» واجهة «جبهة النصرة»، يوم الجمعة 10 شباط الجاري، والذي أعلن من خلاله أن «معبر باب الهوى هو المعبر الوحيد لتلقي المساعدات وقوافل الإغاثة»، أي إنه لن يبقى مقفلاً أمام قوافل الإغاثة السورية، وهذا الموقف يتناغم تماماً مع المواقف التي اتخذتها «قسد» مما سلف ذكره، على الرغم من أن كليهما يبدوان متناقضين في الظاهر، والتناغم يثبت من خلال معطيين اثنين أولاهما أن «الإيحاء» في كلا الفعلين كان أميركياً، من دون أن يعني ذلك انتفاء الأسباب الداخلية لكلا الاثنين الباحثين عن تعزيز نزعتهما الانفصالية كل على حدة، فواشنطن التي وجدت نفسها أمام كارثة اضطرت فيها للإعلان عن رفع «جزئي» للعقوبات أرادت، في الآن ذاته، تفريغ ذلك الرفع من محتواه العملي، والقول إن ثمة «معطيات بنيوية» داخل الكيان السوري هي التي تحول دون عودة الأجزاء للكل، وثانيهما أن قراراً بهذا الحجم، عند «قسد» والجولاني، لا يمكن اتخاذه من دون «إيماءة» أميركية ومن الصعب على كلا الاثنين، مجتمعين أو منفردين، مواجهة التفاهمات الدولية بخصوص إدخال المساعدات التي ما انفكت ملامحها تبرز منذ اليوم التالي للزلزال.
ثمة أمر ربما وقف عنده الاثنان، «قسد» والجولاني، في تصعيدهما آنف الذكر، وهو يتمثل في الطريقة التي تعاملت بها وسائل الإعلام الأجنبية، وبعض العربية أيضاً، مع الحدث، وفي ذاك كانت تلك الوسائل قد سارعت إلى تقديم رقمين منفصلين عن القتلى والجرحى السوريين، الأول عن مناطق سيطرة الحكومة السورية، والثاني عن المناطق التي هي خارج سيطرتها، والمؤكد هو أن الفعل لا يمكن اعتباره «عرضياً»، أو هو خال من الدلالات، ولربما أيقن الاثنان، الجولاني و«قسد» بمقولة «هبت رياحك فاغتنمها»، لكن السياسة لا تبنى على «الوقائع» بل على القوة والمصالح، وإذا ما كان حدث بحجم زلزال 6 شباط لم يستطع إزاحة الاصطفافات الدولية تجاه الأزمة السورية فإن الشواهد تؤكد أن «الرغبات» الأميركية لم تعد مستساغة لدى الكثيرين، وأن القبضة الأميركية تراخت بدرجة باتت محسوسة.
بالمناسبة عادت العديد من تلك الوسائل إلى تقديم رقم سوري موحد للضحايا في اليوم الثاني أو الثالث للزلزال على أبعد تقدير.