تبدو العديد من الدول الإقليمية والدولية، محكومة راهناً في تعاطيها مع الملف السوري بعامل «ضيق الوقت» الذي ترسمه ملامح وتحركات عدة، فالملف السوري، كان قد استعاد نشاطه بعد ركود فرضته الحرب الأوكرانية منذ نحو عام، حيث سيشكل زلزال الـ 6 من شباط الماضي، عامل تحريك قوي تمظهر أولاً بالعامل الإنساني الذي اندفع للسطح سريعاً لكن من دون أن يكون ذلك الدفع «بريئاً» تماماً، ولربما كانت المرامي الكامنة وراء هذا الأخير شديدة الوضوح في أحايين عدة، ثم كان بعضها يحتاج للمزيد من التبصر والانتظار، لكي تتضح الصورة التي يرسمها بشكل جيد.
ضيق الوقت فرضته عوامل عدة أبرزها الانتخابات التركية المقررة يوم 14 أيار والتي ستشهد جولة ثانية بعد أسبوعين من هذا التاريخ الأخير طبقاً لأكثر استطلاعات الرأي، وفي الغضون تبرز جهود روسية- إيرانية مشتركة لتسريع مسار التطبيع السوري- التركي الذي، فيما لو نجح، فلسوف يؤدي إلى سحب «الملف الإنساني»، الضاغط على مسار التسوية، من التداول السياسي، ثم القمة العربية التي ستعقد بالرياض بعد خمسة أيام من جولة الانتخابات التركية الأولى حيث سيشكل «الحضور السوري»، أو غيابه، وسماً هو الأهم لتلك القمة حتى ليطغى على معالمها، بل وسيحدد التوازنات، العربية، القائمة بين محورين أولاهما يسعى إلى ترميم النظام الإقليمي العربي عبر طي المسائل الخلافية لنجاح العملية آنفة الذكر، وثان طغت حساباته الداخلية، وكذا ارتباطاته الخارجية، على السعي الأول بدرجة جعلته كمن يحمل «كيس أحجار» ليرمي بها على الطريق أملاً في أن ينجح الفعل بقطعها ومرور العابرين عليها، ومن تلك العوامل الدولية، اقتراب المهلة الزمنية للقرار الأممي الخاص بإدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية حيث تشير ملامح الجلسة التي عقدها مجلس الأمن يوم الـ 22 من نيسان الماضي لاحتمالية أن تعارض موسكو التمديد إلى ما بعد الـ 10 من تموز المقبل، ففي تلك الجلسة قال المندوب الروسي فاسيلي نيبنيزيا: «إذا استمر زملاؤنا الغربيون في مجلس الأمن في التصرف وكأنه لم يحدث شيء، وفي تجاهل إحباط تنفيذ قرار مجلس الأمن من قبل الإرهابيين الدوليين، فإننا سنخرج بالاستنتاجات المطلوبة عن الوضع الراهن أثناء صياغة موقفنا بشأن تمديد آلية نقل المساعدات عبر الحدود والمخطط له شهر تموز المقبل»، ومن المؤكد أن في هذا التصريح لكنة روسية صحيح أنها ليست بجديدة، لكنها تبدو اليوم أكثر يقيناً بأن آلية إدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية يجب أن تفضي، من حيث النتيجة، إلى كسر الحدود التي رسمتها الحرب الدائرة على سورية.
هذه العوامل مجتمعة فرضت سلوكاً على «اللاعبين» بدا عليه أنه محكوم بضيق الوقت بدرجة تبدو محددة لمعالم ذلك السلوك، ولعل اجتماع «الخماسية» في عمان يوم 1 أيار الجاري كان يندرج في هذا السياق حيث تشير التقارير إلى أن المخرجات التي خلص إليها هذا الأخير لم تكن «إيجابية» بدرجة تعكس تلاقيات دمشق الأخيرة مع كل من القاهرة والرياض، والراجح هو أن «الإشارات» سابقة الذكر صحيحة انطلاقاً من أن توقيت الاجتماع لم يكن مناسباً، إذ لطالما كان عداد المراحل يشير إلى وجود خطوات ناقصة كان من الأفضل القيام بها قبيل أن تجتمع الخماسية، والمشكلة هو أن محطة عمان 1 أيار كانت تمثل ذروة مسار ما انفكت الخطوات تتكاثف على طرقاته منذ عدة أشهر، ولذا كان من الواجب على «العابرين» تحديد «توقيت» بلوغ الذروة، لأن بلوغ طريق آخر للذروة نفسها سيستغرق وقتاً طويلاً هذا إذا ما ظلت «نوازع» التصميم على القيام بالفعل قائمة.
ما يقودنا إلى هذا الرسم أعلاه هو حقيقة مفادها أن «مخاطر» التسوية المفترضة للأزمة السورية لا تقل خطورة، من حيث النتائج التي يمكن أن تؤدي إليها، عن الحرب التي دارت رحاها علينا من دون أن يبلغ «مديروها» المبتغى الذي رسموه لها حين انطلاقتها، فمشاريع الحلول والتسويات راحت تتكاثف على طرقات لا «إشارات مرور» فيها، بل وطرقاتنا لا تتسع لكل تلك الكثافة الكافية لإثارة القلق أكثر من إثارة الارتياح، ومهما قيل في المسارات التي تم تجريبها حتى الآن فإن القيمين عليها دول لها مصالح وتحكمها رؤى واعتبارات عدة، وفي ظل دوران «الرحى» ذاك يمكن الجزم بأن الدور العربي يجب أن يظل فاعلاً، أو لا يغيب أثره، لاعتبارات عدة منها أن الغياب سيخلق فجوة في الرسومات التي يجري خطها الآن بالقلم الرصاص، ثم إنه يظل عاملاً «ضامناً» للهوية والانتماء السوريين في ظرف يبدو فيه أن العديد من «اللاعبين» وكأنهم لا يقيمون كثير اعتبار لذينك الأمرين، والشاهد هو أن كثيراً من المشاريع المطروحة تكاد تخلو منهما بدرجة واضحة.
ما يؤكده الحراك السياسي الحثيث في المرحلة الراهنة هو أن الأزمة السورية استعادت «وهجها» من جديد على الرغم من «توهج» العديد من الأزمات الدولية والإقليمية، وتلك حالة إيجابية من المفيد الاستثمار فيها، لأن ضياعها سيعني دخول الأزمة من جديد مرحلة «النسيان» التي قد تطول وتطول، وفيها سيتسارع نزف الشرايين السورية بدرجة تهدد حيوية الجسد الذي تعبت مفاصل الحركة فيه نتيجة لانحسار فعل «ضخ الدم» الواصل إليها.