الشاعر الموقف والوطني النبيل في شعره وحياته … عبد الرزاق عبد الواحد عاش ورحل وبقي على قناعاته وتفوقه الشعري
| إسماعيل مروة
في كل مرة أريد أن أكتب عن الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد في وجوده وبعد رحيله أجد ما يمنعني أو ينسيني، ولست أدري سبب تقصيري مع قامة شعرية قلّ نظيرها مهما اختلفت الآراء عن علاقتها بالحكام، فالشعر يبقى شعراً، والشاعر من الشعراء المطبوعين الفحول في زماننا.
وحين سمعت قصيدته القصيرة (الزائر الأخير) لم أستطع الفكاك من أسره وروحه يا لشعره:
من دون ميعاد
من دون أن تقلق أولادي
اطرق عليّ الباب
أكون في مكتبتي في معظم الأحيان
اجلس قليلاً مثل أي زائر
وسوف لا أسألك لماذا ولا من أين
وعندما تبصرني مغرورق العينين
خذ من يدي الكتاب
أعده لو تسمح دون ضجة للرف حيث كان
وعندما نخرج لا توقظ ببيتي أحداً
لأن من أفجع ما يمكن أن تبصره العيون
وجوه أولادي حين يعلمون
ورحل عبد الرزاق عبد الواحد الشاعر المبدع كما أراد وبقي مثالاً للانتماء.
اللقاء والشعر
كنت أسمع شعره واسمه، وقرأت من أشعاره، وتناقل العراقيون والأدباء أخباره ونتفاً من أشعاره، وذات أمسية من عام 1996 أعلنت جامعة الإمارات العربية المتحدة- العين عن أمسية شعرية كبرى يشارك فيها الشاعران عبد الرزاق عبد الواحد ولميعة عباس عمارة، وكل ما أعرفه عن شعر عبد الرزاق يتعلق بجانبي السياسة والمرأة، أما الجانب السياسي، فلم يكن مرغوباً في ذلك الوقت، وهناك من يحكم عليه بقسوة إلى يومنا، مع أن الشاعر كان في كل موقف يتحدث عنه ويفاخر، ولا يقبل أن يصادر له واحد قناعاته، كما شهدت بأنه لم يعترض على ميول واحد، بل كان يصفق له، ولو لم يكن يوافقه، خاصة إذا لم يطعن بالآخرين. وبقي الجانب المتعلق بالمرأة، وعبد الرزاق شاعر امرأة من طراز فريد، ومباشر في وصف المرأة والعلاقة بينها وبين الرجل المحب.. فسألت نفسي يومها: كيف سيوائم الشاعر وهو يلقي أمسية في كليات الطالبات، وبحضور أكاديمي ورسمي من التعليم العالي؟ وهمس له واحد: أرجوك ألا تلقي من الغزل الصريح..
وكانت الشاعرة لميعة مهرة الشعر العراقي إلى جانبه، وعليها من كبرياء الجمال يبدو على الرغم من التقدم في العمر، ألقى عبد الرزاق فأشعل القاعة وأشعل الحرائق، ولم يلتزم بما طلب منه، وأغرق في شعر الحب، حتى أخذت عنه لميعة الإلقاء، وقدّمت شعرها الجميل.. يومها عرفت أن لميعة عباس عمارة قريبة نسباً من عبد الرزاق، وكل ما كنت أعرفه عنها أنها شاعرة، وأنها الفتاة التي أغرم بها الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، ولم يحظ منها بالقبول.. وانتهى اللقاء والمناقشات، وغادر الشاعران، وبقيت صورة عبد الرزاق ماثلة بتبرمه وصوته وعناده وعبقرية الشعر التي استهلكتها السياسة التي أحبها.
وفي دمشق لقاءات
دمشق العظيمة التي جادت علينا بلقاء مع أبي الفرات محمد مهدي الجواهري، وأمسياته الشعرية، وجادت بعبد الوهاب البياتي في أثناء إقامته في دمشق، رأت أن تحتضن عبد الرزاق عبد الواحد، فكانت لقاءات وأمسيات وجلسات أظهرت هذا الشاعر الكبير لطيبته وأصالته ومواقفه الثابتة الراسخة، وعلى الرغم من الخلاف السياسي والمذهبي لم يدع عبد الرزاق لتكريم قامة إلا أسرع، شريطة ألا تكون هذه القامة من الشتّامين والمتاجرين بالوطن، فأنت حر في نظره ألا تحب حكام العراق السابقين، ولكنك لست حراً في حب العراق، ولا يحق لك أن تشتم الراحلين والغائبين لمجرد أنك لا تحبهم.. وأذكر أن الشاعر محمد مصطفى جمال الدين كان في دمشق، وأراد أن يقيم حفلاً لائقاً بذكرى والده الشاعر الكبير المعمم الدكتور مصطفى جمال الدين.
ولا أذكر أنني حضرت حفلاً بهذا المستوى، وبهذه النوعية من الحضور، وعلى هذا المستوى من الاحتفاء من أسرته، ودعيت للمشاركة شخصيات عراقية وسورية، وكنت أجلس بالمصادفة إلى جانب الشاعر الكبير عبد الرزاق بين المتحدثين قريباً من منبر ثقافي المزة، وقبل أن يصل دوره قام أحد الموجودين بالهتاف الذي استفز الشاعر، فنهض كالمارد، وعلى الرغم من قامته غير الطويلة، إلا أن صوته وغضبه طغى على القاعة، واستمر الجدال وقتاً، ولم يحلّ الإشكال إلا بتدخل شخصيات اعتبارية كانت موجودة، وطُلب الشاعر ليلقي قصيدته، فوقف على المنبر وتوجه إلى الشخص والموجودين، وقال: نحن في حضرة الشاعر الكبير الذي أحب العراق.. ولن ألقي بوجود هذا الشخص، ولم يلق قصيدته إلا بعد خروجه ليبدأ:
هبها دعاءك فهي لا تتذكر
من فرط ما اشتبكت عليها الأعصر
ولعلها وهي الذبيحة سيدي
بمهيب صوتك عريها يتدثر
هبها جمال الدين صوتك حانياً
يعلو فيخشع من تقاه المنبر
ولعلّ من وثبوا على حرماتها
نزواتهم بجلاله تتعثر
هذا دم الفقراء ينزف مصطفى
وفقيرهم يبكي عليه الأفقر
يا سيدي بغداد حتى شمسها
سوداء مما وجهها يتعفر
لن أدعي أني صبور في الأذى
بعض الأذى من كل صبر أكبر
لكنه وطني يُهيأ نعشه
ليصير أوطاناً تضيع وتطمر
من أجل من ذبح العراق وأهله
في كل أرجاء البرية بعثروا؟
لتنام إسرائيل ملء جفونها
وكلابها في أرضنا تتبختر؟
لتقيم أمريكا بعقر بيوتنا
ونظل نحن لها خرافاً ننحر؟
أفلم يكن إلا نزيف دمائنا
سقياً لكي ينمو الخراب الأكبر؟
وأنهى قصيدته يومها، ووجه للعراق وجهه وحبه، وأشرق وجهه، وعرف الجميع أن عبد الرزاق شاعر وطن ووفاء، ولم يغادر القاعة قبل أن يصافح من خاصمه ويوضح موقفه، وقد فاض فيه كبرياء الشعر، ورأى روحه فوق كل ما كان من نقاش.
شاعر للحب والناس
عندما كان ذاك يخاصم عبد الرزاق، كان يصفه بأنه شاعر الرئيس، وبأنه غارق في أعطياته، وكان ا لشاعر يفاخر بذلك، ولا ينفيه، ويرى من الوفاء ألا ينقلب على ما كان من قربه من القصر، لكن كلمة قالها عبد الرزاق رحمه الله كانت كافية لتجعلني أبحث، فقد قال للرجل: أنت حر ألا تحب القيادة، ولكنك لم تقرأ شعري، ولو قرأته لعرفت من أنا أو لا يكون الحكم إلا بالوقوف على ما قاله في القامات، وحين نقرأ ما كتبه الشاعر الكبير نجد أن أغلب ما قاله كان في شخصيات لا خلاف على وطنيتها، وفي مواقع لا خلاف على توقيرها، وإن كان الشاعر لا ينتمي إليها، لكنها تمثل صدى وطنياً مهماً، وتمثل برأيه عنصر لمّ للشمل، ولا تمثل عنصر تفريق، وإن أرادوا لها أن تفرّق!
يتحدث في أحمد الصافي النجفي، عبد الجبار عبد الله، الجواهري، جبرا إبراهيم جبرا، نزار قباني، محمود درويش، بدوي الجبل، مصطفى جمال الدين، في رحاب الحسين، في رحاب النجف الأشرف.. عبد الرزاق عبد الواحد لا ينتمي عقيدة لأي واحد من هؤلاء، لكنه ينتمي فكراً وحباً ووطنية، فوقف عندهم وقفات تستحق الدراسة، لا وقفات من باب رفع العتب، وهو غير مضطر لذلك أبداً، فماذا قال في الجواهري مثلاً؟
لا الشعر أبكيه لا الإبداع لا الأدبا
أبكي العراق وأبكي أمتي العربا
أبكي على كل شمس أهدروا دمها
وبعد ما فقدوها أسرجوا الحطبا
أبكي على وطن يبقى الأديب به
ليس الغريب ولكن أهله الغربا
يا ذا المسجى غريباً والعراق هنا
يشقّ قمصانه في البعد منتحبا
وتصرخ النجف الثكلى مروعة
رجع المآذن فيها يفزع القببا
علمتني كيف أهدي للعراق دمي
شعراً وأخشى العراقيين إن نضبا
من قبل قرن لو أنّا نبتغي عظة
وعظتنا أن نصون العلم والأدبا
صدق عبد الرزاق عندما قال لمحدثه: أنت لا تعرفني ولا تعرف شعري، فشاعر الرئيس يتحدث عن الجواهري، وينتقد الحكم الذي يحبه على ما فعله مع الجواهري وغيره من الأدباء، ويبكي العراق لخسارة مبدعيه.. كذلك كان عبد الرزاق عبد الواحد منتمياً للعراق، وما قاله في المشاهد الشيعية، جعل كثيرين يظنونه شيعياً، وما قاله في السنة جعل الكثيرين يظنونه سنياً، وما قاله في المسيحيين جعلهم يظنونه ميالاً للمسيحية، وهو في كل ذلك بعيد عن التوجهات الضيقة، ولا ينتمي إلى أي واحد من هذه المذاهب الدينية والفكرية: إنه ينتمي إلى العراق والوطن أكثر من أي شيء آخر.
عبد الرزاق ومدرسة في الوطنية
قد يسأل واحد عن سبب عودة عبد الرزاق عبد الواحد إلى الورق اليوم، الأسباب عديدة، فكثيراً ما نذكره، و لفت انتباهي الصديق عبد الفتاح العوض أكثر من مرة إلى أشعار له، واليوم في خضم ما يحدث على الأرض العربية أرى أن شخص عبد الرزاق عبد الواحد وشعره يمثل أنموذجاً وطنياً للانتماء، فلا يحق للمبدع والمثقف أن يغير البندقية والأدب من كتف إلى كتف، وقد يصبح مصوّباً على وطنه إكراماً لأشياء كثيرة، لم يرضَ عبد الرزاق عبد الواحد وهو البعيد، أن ينال أحد من عراقه، ومن قبل مصطفى جمال الدين لم يقبل أن يتحدث أحد عن أنه منفي، وقال: لم يخرجني أحد من العراق، لكنني أنا خرجت معززاً لأنني لم أجد نفسي.. مدرستان في الوطنية، وإن اختلفت التوجهات والمشارب، فهل نقف عند هذه القامات؟