السينوغرافيا من منظور أكثر شمولاً خارج النطاق المسرحي … التمثيل المشهدي بدءاً من فن الكهوف وصولاً إلى التسجيل الرمزي أو الحرفي
| مايا سلامي
صدر عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة للكتاب دراسة بعنوان «السينوغرافيا- مشهدية العرض»، تأليف د. رندا سلمان إسماعيل، تقع في 382 صفحة من القطع الكبير، ويقدم هذا الكتاب مصطلح السينوغرافيا من منظور أكثر شمولاً خارج النطاق المسرحي الذي احتكر استعمال هذا المصطلح إلى درجة جعلته مقرراً دراسياً حصرياً في أكاديميات الفنون المسرحية، كما يحاول الكتاب التعريف بالنموذج الأول للتمثيل المشهدي الذي بدأه الإنسان منذ العصر الحجري، متتبعاً تطور أشكاله وتقنياته وصولاً إلى آخر النزعات الفنية في عالم الاستعراض نهاية القرن العشرين في كل الطقوس الدينية والجنائزية، وفي الحياة اليومية والعوالم الغيبية وفي اللوحات الجدارية وفي أجنحة المعارض وفي الفضاءات المعمارية والعمرانية.
وفي هذه الدراسة يجتمع كل من التاريخ وعلم الآثار والفنون التشكيلية والعمارة على تحليل هذه المشاهد وتوضيح تفاصيلها، كما أنها تخاطب في أقسامها الثلاثة شرائح متعددة من القراء، ففي الوقت الذي تشبع فيه معلومات القسم الأول فضول القارئ الميال إلى التاريخ بشكل عام وتاريخ الفن بشكل خاص، يتوجه القسم الثاني إلى المختصين بالدراسات التحليلية للفضاءات المرئية وأثرها في الجمهور، أما القسم الثالث فإنه يخاطب المهتمين بالأبحاث العلمية من خلال تقديمه لدراسة أكاديمية في مجال تاريخ العمارة، وينتهي بعرض نتائج قابلة للتطبيق في فراغات العرض المتحفي.
فن الكهوف
وفي البداية تستعرض الكاتبة تاريخ التمثيل المشهدي بدءاً من فن الكهوف حيث يعود تاريخ أول تمثيل قام به الإنسان إلى عصور ما قبل التاريخ، ويؤرخ العمل الفني الأقدم بـ290 ألف عام ق. م. ترك إنسان العصر الحجري آثاره على الحجر بحفر ثقوب وأخاديد أو بصقله وطرقه وصولاً إلى نحته وتلوينه في وقت لم يكن التسجيل الرمزي أو الحرفي قد ظهر بعد.
وتشير د. رندا إلى أن فن الكهوف يعد مرحلة متطورة من النقوش الحجرية التي تدل على درجة الرقي التي وصل إليها العقل البشري في الفترة بين 40000- 10000 ق. م، والتي دفعته للبحث عن وسيلة لمشاركة أفكاره مع من حوله أو ربما محاولة نقل بعض المعلومات لما سيأتي بعده وهذا ما يمكن تسميته عملية التوثيق.
وتؤكد أن الأهمية التاريخية لفن الكهوف تكمن في اعتباره المصدر الأساسي لاستنباط المعلومات عن الشعوب التي نفذته، وذلك لأن ما صوره الإنسان في ذلك الوقت لم يكن إلا ما يراه بالفعل وما يعيشه ما جعل رسوماته تتسم بشكل أو بآخر بالواقعية.
النحت الإغريقي
وتتطرق د. رندا في دراستها إلى فن النحت الإغريقي فتوضح أن عقيدة الإغريق القدماء أدت دوراً مهماً في إغناء الخيال الفني بعدد لا متناه من الرموز والدلالات ليعاد تمثيلها أمام العيون بكل تنوعاتها، لقد نحت الرمز الإلهي ليكون تمثيلاً تصويرياً يحفظ سواء داخل المعابد التي لم تكن إلا بيوتاً مؤقتة للآلهة أو الهواء الطلق لكن ضمن أسوار الحرم المقدس الذي يمنع على العامة دخوله إلا في مناسبات معينة.
وتشير إلى أن الفن التشكيلي الإغريقي القديم يعد فناً روحياً بامتياز لابتعاده عن التعابير القادرة على استثارة الحواس وتحريك المشاعر الدنيا، فهو يقدم تمثيلاً جسدياً خالياً من أي إباحية أو فجاجة قد تطغى على المفهوم اللامادي للروح وهذا ما يفسر السمة العامة للمنتجات الفنية القديمة التي تتميز وجوه التماثيل الإلهية فيها بالهدوء وصفاء النفس.
وتقول د. رندا: «نفذت المنحوتات بهيئات مدروسة بدقة من حيث النسب والوضعيات إذ يمكن تعرُّفها عليها مباشرة، وقد ترافق تجسيد كل إله مع مجموعة من المواصفات والأدوات التي تدل على عمله كالصاعقة لزيوس والرمح ثلاثي الشعب لبوسيدون والقوس والسهم لأبولون، فهم في مجموعهم يعبرون عن طبيعة الظواهر المرتبطة بهم، أساس ألوهيتهم».
الدراما الشعائرية
وتتحدث الكاتبة عن الدراما الشعائرية ونشأتها التي كانت مع بداية العصور الوسطى عندما صارعت الكنيسة الأوروبية فكرة المسرح بقوة لتعود ومن أجل مد نفوذها في القرن العاشر لإعادة إحياء بعض الأعياد التراثية التي تعود أصولها إلى الديانات الوثنية مقدمة إياها بصيغة كنسية تحت ما يسمى «الدراما الشعائرية».
وتكشف د. رندا أنه نحو عام 925 نظم عرض يقدم حواراً بين مريم العذراء والملائكة كتمثيل مجازي لعيد الفصح ومن وقتها اتخذ موكب أحد الشعانين الطابع الاستعراضي مشكلاً بذرة هذه الدراما الشعائرية.
وتؤكد أن الدراما الشعائرية تطورت من خلال عبارات قصيرة يرد عليها بأجوبة قصيرة من الجوقة، ثم أدخلت لها مشاهد مستوحاة من الكتاب المقدس: ابتداء من قصة الخلق وصولاً إلى الصلب إضافة إلى مشاهد حياة القديسين، وقدمت هذه العروض باللغة اللاتينية في الرهبنات أولاً لتقدم في الكنائس لاحقاً.
وعن الديكور المتبع في هذه العروض تذكر الكاتبة: «يتبع الديكور في هذا النوع من العروض نظاماً محدداً فهو يتألف من ثلاثة هياكل خشبية مركبة بعضها فوق بعض، في الأسفل يرمز للجحيم بفك شيطاني كبير أحمر محاط بالشعر ومزين بشياطين صغيرة تقذف النار، في الأعلى تمثل الأقمشة السماء مع الغيوم والملائكة وفي وسط المجموع تظهر لوحة الأب، أما الفراغ المخصص للمطهَر فقد كان خالياً من أي رمز».