على أعتاب المجهول
| حسن م. يوسف
قبل ألف وثلاثمئة وأربعين عاماً صرخ الشاعر عمرو بن الأهتم الذي كان يدعى في شبابه بـ«المُكَحَّل»، لفرط جماله، معبراً عن شعوره بالضيق فقال:
«لَعَمرُكَ ما ضاقَت بِلادٌ بِأَهلِها وَلَكِنَّ أَخلاقَ الرِجالِ تَضيقُ»
وفي عام 1999 ألَف زياد الرحباني ولحَّن ألبوم أغنيات لأمه كلّية الروعة «فيروز» بعنوان: «مش كاين هيك تكون» أطلق فيه صرخة مشابهة إذ قال:
«ضاق خلقي يا صبي من هـ الجو العصبي»
والحقيقة أن صرخة زياد لم تفاجئني، كما لم يفاجئني إعلانه، أواخر العام الماضي، عن نيته مغادرة لبنان نهائياً، فقد صارحني بذلك في الحوار الطويل الذي أجريته معه عام 2008 ونشر في جريدة تشرين. يومها كنت واثقاً أن زياد لن يهاجر، إلا إذا هاجر جبل صنين، لكنه فاجأني عندما عبَّر لي عن ندمه لأنه لم يحسم خياراته باكراً: «صحيح أنها ليست أمنيتي أن أَفِلّْ، لكن الاستمرار هناك صعب جداً، فالبلد واقف منذ ثلاث أربع سنوات». وقد وصف نفسه بأنه «عالق في البلد» بسبب «هذه الظروف التي لا تنتمي لا للحرب ولا للسلم فهي مزيج من الاثنين».
في حوارنا قال زياد إنه يضطر للعزف في محلات ومطاعم «تصل فيها ضجة الصحون والصراخ لدرجة أنه لا أحد يسمع فيها شيئاً». كما عبَّرَ عن شعوره بالإحباط لأنه «قاعد في البيت» ولما سألته عما إذا كان سبب البطالة التي يعاني منها رفضه الانضمام لنادي الفن الهابط الذي يطغى عليه الفيديو كليب، ويتكاثر فيه من يغنون بمختلف أعضاء أجسادهم عدا حناجرهم، أجابني بوضوح شديد بأن «… جمهورية روتانا ترسل إشارات دائمة لمن يودون الدخول…». يومها صححت له قائلاً: تقصد مملكة روتانا؟ أجابني: «بالضبط، إنهم يجسون النبض دائماً على الرغم من أنهم باتوا قاطعي الأمل. الآن تمكنوا من قضم السوق قطعة قطعة وتمكنوا من الإمساك به كله على مستوى الإعلام والإنتاج، وهم السبب وراء قعودي أنا وغيري في البيت».
يومها سألت زياد عما إذا كان يعتقد بأن سيطرة روتانا على الحياة الفنية العربية «شيء بريء»؟ فأجابني بثقة تامة: «لا، ليس بريئاً، وخاصة إذا عرفت أن السلفية والفن الهابط مركزهما واحد، وهما من إنتاج جهة واحدة. فمن أين تأتي البراءة لمثل هذا الأمر! انظر إليه هنا كم هو منفتح وهنا كم هو… إنه أصولي في المسألتين!».
لقد مضت ثمانية أعوام على الحوار الذي أجريته مع الفنان الفلتة زياد الرحباني، رغم ذلك يندر أن يمر يوم إلا وأتذكر فيه قوله: «السلفية والفن الهابط مركزهما واحد». أي السعودية، وقد فسرت الأيام العلاقة التكاملية بين الفكر الظلامي المتشدد والفن الهابط المنحل فكلاهما يستهدفان الشخصية الوطنية المتزنة، وكلاهما يسعيان لشل الفرد والمجتمع بغية إعاقة حركة التقدم.
في آخر حوارنا الطويل سألت زياد كيف يرى المخرج من حالة الشلل التي تعتري بلداننا العربية فقال:
«أعتقد أن قيام الحركة الدينية، مهما كانت نظيفة، بوراثة الحياة الحزبية، لا يشكل مخرجاً، الأمر برمته يتوقف على مدى رجوع الحركة السياسية إلى العالم العربي. إذا لم تعد الحركة السياسة للوطن العربي فأنا أعتقد أن ما نحن فيه لا يتجه نحو حل… «سألته هل يتجه ما نحن فيه نحو مزيد من التأزم؟ أجابني: «قد يتجه إلى مجهول، لا أعرفه».
وها هي منطقتنا تقف على أعتاب المجهول الذي أشار إليه زياد.