تولدت الأفكار الأولى لبذرة «بريكس» في أعقاب أحداث 11 أيلول 2001 وما تلاها من جموح أميركي تمظهر في غزو أفغانستان خريف العام 2001، ثم غزو العراق ربيع العام 2003، حيث سيؤكد الغزوان، لدى مستولدي الأفكار، أن الولايات المتحدة ماضية في سياق تعزيز قبضتها على العالم بشكل يفوق المرحلة الماضية، أي المرحلة الممتدة ما بين 1991 وأحداث نيويورك، انطلاقاً من الإخلال الحاصل في ميزان القوى العالمي الذي كان يشير حينها إلى تفرد أميركي بمركز الصدارة العسكري والاقتصادي جنباً إلى جنب نظائر أخرى كالتكنولوجي الذي بات يمثل عنصر هيمنة لا يقل في آثاره عن نظائره عند العاملين سابقي الذكر.
كانت المحاولة الأولى في العام 2006 قد هدفت إلى خلق «سد» أمام تمدد «العولمة» التي باتت تغزو العالم معتدة بنظريات من نوع «نهاية التاريخ» ووصوله إلى خواتيمه التي تفرض «سيادة النموذج الأميركي» بشكل جعلها أقرب إلى «أمركة» العالم أو على الأقل جعل هذا الأخير «كويكباً» يدور في فلك «الشمس» الأميركية، والمحاولة إياها، التي ضمت كل من روسيا والصين والهند والبرازيل في البدايات، راحت تشق طريقها صعوداً لمراكمة عوامل اقتصادية واجتماعية وعسكرية تمهد لنظائر سياسية لها تكون قادرة على إعطاء قدرة لجدران «السد» الذي كان مجرد التفكير بإنشائه حينها جموحاً للخيال بدا عند الكثيرين أنه أقرب إلى «الوهم» منه إلى الواقع الذي كانت تشير معطياته إلى فوارق يحتاج تقليصها لمراحل وقدرات غير متاحة في الوقت الراهن، هذا إذا توافرت الإرادة السياسية لدى أصحاب المحاولة، المتباعدين جغرافياً، والمختلفة شعوبهم بالثقافة والميول، وجل ما يجمعهم هو سعيهم ورغبتهم بتحسين ظروف عيش شعوبهم من دون الحديث عن «الديمقراطيات» أو «الحريات» التي أوجعت «صناجة» الغرب بها آذان العالم المحبط والباحث عن استقرار بلدانه انطلاقاً من استقرار اقتصاداتها.
عانى مسار «بريكس» منذ انطلاقته معوقات عدة، وذاك أمر لا يخرج عن الحدود الطبيعية قياساً لحجم الأهداف التي وضعتها الدول المؤسسة نصب أعينها، حتى إذا خرجت الأزمة المالية التي مر بها الغرب للعلن عام 2008 أصبح شعار البحث عن مخارج عبر نظام «اقتصادي عالمي أكثر عدالة»، الذي ورد في البيان الختامي للقمة التي عقدت في ذلك العام، أكثر مشروعية وإلحاحاً قياساً إلى عمق التهتكات التي خلفتها تلك الأزمة في نسيج الغرب المالي، لكن «المشروع» عاد إلى التعثر من جديد بعد خسارة اليسار البرازيلي للسلطة عام 2011 بعد أن لعب لولا داسيلفا زعيم ذلك اليسار دوراً كبيراً في إعطاء هذا الأخير زخماً كبيراً له إبان وجوده في السلطة ما بين 2003 – 2010، وهكذا مرت سنوات العقد الثاني من هذه الألفية لتفرض نوعاً من المراوحة على مشروع «بريكس» الذي راح يعاني من إشكالية تتمحور حول أن سقوف الأهداف لا تزال أعلى مما تتيحه القدرات والتلاقيات.
مع بداية العقد الثالث من هذه الألفية حدث تحولان على درجة عالية من الأهمية كان لهما تأثير مباشر على بنيان وآفاق «بريكس»، أولاهما نشوب الصراع الروسي- الغربي على الأرض الأوكرانية والذي فرضت تداعياته الكثير من التحولات العالمية التي كان أهمها هو التقارب الروسي- الصيني الذي سار على قاعدة وجوب توجيه أكبر عدد من الطعنات لنظام «الهيمنة» الأميركية المترنح، وفي السياق بروز ظاهرة «التفلت» من القبضة الأميركية التي راحت تظهرها العديد من القوى والدول الفاعلة التي غالباً ما كانت تستظل برداء هذي الأخيرة لاعتبارات تتعلق بأمن واستقرار مجتمعاتها، وأخرى تتعلق باستقرار أنظمتها، وثانيهما عودة اليسار البرازيلي للسلطة بطريقة أعطت دفعا كبيراً لكل المشاريع التي طويت في أعقاب خسارة هذا الأخير للسلطة عام 2011 وصولاً للعام 2022.
عشية انعقاد قمة «بريكس» التي حملت الرقم 15 بجوهانسبرغ كانت هناك 20 دولة قد تقدمت بطلب انضمام للمجموعة، وما جرى أن القمة وافقت على طلب انضمام ست منها هي: مصر والسعودية والإمارات وإيران وإثيوبيا والأرجنتين، وذاك مؤشر يدل على وجود حسابات دقيقة تطول المدى الذي يجب أن يصل إليه فعل «التمدد» الذي بات يمثل أولوية عند غرف صناع القرار لكن بشكل لا مكان فيه للتلقائية، هذا التوسع هو الثاني من نوعه منذ أن انضمت جنوب إفريقيا العام 2010 التي اختيرت هذا العام لتحتضن القمة الخامسة عشرة، والفعل لم يكن مصادفة بالتأكيد، فهو جاء في سياق مناخات تشهدها القارة السمراء تبدي شعوبها من خلالها ميلاً لقطع شريط «الحلابة» الذي يصل ما بين «الضرع» الإفريقي وبين «السطل» الفرنسي، في الوقت الذي تسخر بكين فيه المليارات لتشبيك دول القارة ببعضها بعضاً، مع وجود استعداد أبدته موسكو لتوزيع الحبوب والأسمدة مجاناً للعديد من دول القارة، وكلا الفعلين يهدفان من حيث النتيجة إلى استمالة الشعوب قبل الأنظمة لكي تتخذ قرارها بأفضلية التموضع في معسكر «بريكس» بديلاً عن معسكر الغرب الذي يطغى على أدائه أسلوب «النهب» بشكل صارخ.
لا يزال بنيان «بريكس» قيد الإنشاء على الرغم من مرور 17 عاماً على «صب» أساساته، والمؤكد هو أن البنيان لا يزال يعاني من صعوبات تعترض هدف علو طوابقه التي يطمح إليها المصممون، لكن هدفاً من نوع «تعزيز التعددية من أجل تنمية وأمن عالميين عادلين» الذي سيكون الشعار الذي ستنعقد تحت رايته القمة الـ 16 بـ«قازان» الروسية شهر تشرين أول من العام المقبل، يستحق بذل المزيد ومراكمة «لبنة» فوق أخرى للوصول إلى سقوفه.