نحن في عـصر تعـتمد فيه الحقائق عـلى الأرقام؛ من أصغـر مؤسسة لأكبر دولة؛ وللأسف ليس للرقم قدسية لدينا؛ وحتى الأرقام هي غـير موثوقة؛ لأسباب تفـسـّرهـا هذه القصة الرمزية التي رواها لنا الصديق يوسف، أنقلها عـلى ذمـّته وبلسانـه!
إذ قال: إنه في مدرسة ثانوية للبنين، وفي بقعـة مهجورة من بلدنا المعـطاء، كان آذن المدرسة (المراسل) أبو فتحي رجلاً بسيطاً، وكانت الإدارة تكلفـّه الكثير من المهام. ومن بين تلك المهام الملقاة على عاتق المراسل الطيب، كانت مهمة تسجيل قراءات كمية الأمطار التي هطلت، وذلك من مقياس أنبوبي موضوع على سطح المدرسة.
الرجل لم يسمع بكلمة الموضوعية أو الواقعية أو ضرورة التسجيل الدقيق على الأقل، فهو مرهق في الأعمال من الصبح حتى نهاية الدوام، لذلك كان يسجل القراءات دون أن يكلـّف نفسه عـناء الصعـود إلى السطح، وكان يسجلها أحياناً على قاعدة النكاية في بعض أقاربه المزارعين، حيث يسجل بأن المقياس سجل (8) ملم، على حين تكون الأرض غرقى بالمياه، ولا تقل كمية الهطل عن 42 ملم طبعا حينما كان يرضى عن أقاربه كان يسجل نسبة هطل فوق الـ50، على حين لم تمطر السماء في ذاك اليوم.
لا يعرف مراسلنا طيب الذكـر حجم الكوارث التي تركها وراءه، إذ إن دائرة الأرصاد الجوية اعتمدت تلك القراءات المغلوطة لتلك الأعوام، لا بل صارت جزءاً من تحديد معدل هطل الأمطار العام في المحافظة، وأثـّـرت أيضاً على المعدل المطري العام. رحل الرجل وترك لنا كوارث لن تفنى. لكن صاحبنا كان يمارس هذه الأخطاء بالكثير من السذاجة والطيبة، وعلى قاعدة المناكفات العادية بين الأقرباء، ولم يكن في ذهنه بأنه يساهم في تشويه التاريخ الزراعـي.
لا أريد هنا أن أسرد الأخطاء والخطايا، فلن نتفق عليها أصلاً، إذ إننا حتى هذه اللحظة، نمارس التزوير والتحوير أمام أعين الكاميرات ووسائل الاتصال الحديثة والمنقرضة، دون أن يندى لنا جبين أو ضمير.
المشكلة أننا جميعاً حيارى، ولا نعرف حقيقة ما يجري الآن، إذ نسمع الخبر أو الحادثة من أكثر من مصدر، وكل مصدر يرويها بطريقته!.
في (سكتش) غنائي للرحابنة يصل إلى هدى (أخت السيدة فيروز) رسالة من والدها، وبما أنها لا تجيد القراءة، تسأل الآخرين عن تفاصيل ما ورد في الرسالة، فتسأل البقال، الذي يقولها لها إن والدها يطالبها بسداد دينه للبقال، وكذلك يقول اللحام ومعلم المدرسة وغيرهم. وكل واحد يترجم مكنونات الرسالة عـلى هواه!
نعـود لعـلم الإحصاء؛ فنقول: إنه ضروري للمؤسسات صغـيرها وكبيرها؛ حيث تخطط للمستقبل عـلى حسب معـطياته؛ ولكن الإحصاء قد يخادعـنا أحياناً ؛ فإذا كانت يدك في الثلاجـة.. ورجلك في الفرن؛ فالمتوسط Average حسب هذا العـلم؛ يقول إنك بألف خير؛ على حين أنك بواقع الأمر؛ تعـاني الويلات من الطرفين.
توصف الإحصائيات على أنها عملية تخدم المجتمع برمته، وتحلل المعطيات الإحصائية لتحديد حجم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وتساعد لتحديد المصادر المتوافرة لحل هذه المشكلات، وتنشر المعلومات الإحصائية لجعلها في متناول المستفيدين سواء من المتخصصين أم عامة الجمهور.
التقيت، الأسبوع الماضي، أحد الأصدقاء، وكان قادماً من إحدى دول جنوب شرق آسيا، التي انتعش اقتصادها مؤخراً، فسألته عن المشاكل التي تواجه تلك الدول، فقال لي: إنه سأل رئيس الوزراء السؤال نفسه، فقال له: نحن الآن مشغولون بالتخطيط لعام 2053!
فرق كبير بيننا وبينهم!
ببساطة.. معظمنا لا يسعى إلى الحقيقة؛ ولا يقول الحقيقة؛ ولا تهمّه الحقيقة!