«الآدمي»!
| د. بسام أبو عبد الله
تحفل مفرداتنا السياسية بخليط غريب عجيب من المصطلحات التي تحمل طابعاً اجتماعياً وتصلح للزواج، والعلاقات الاجتماعية، أكثر مما تصلح للاستخدام السياسي لتوصيف شخصية ما، أو كادر ما، إذ إنه من المتعارف عليه عالمياً أن هناك سيرة ذاتية لأي شخصية تُرشح لموقع ما يُفترض بها أن تتفق مع طبيعة المهمة الموكلة له بحيث يستطيع أن يحقق من خلالها قصة نجاح تعود بالنفع والفائدة على المجتمع والدولة.
من هذه المصطلحات التي يحفل بها قاموسنا السياسي مصطلح «فلان آدمي»، وقد حاولت كثيراً البحث عن تفسير سياسي له فلم أجده، أي هل «الآدمي» هو شخص طويل أم قصير، ينام باكراً، ويستيقظ كذلك، حياته خالية من الشوائب، وزوجته راضية عنه، وهل هذا المصطلح يعني أنه يحمل الشهادات والخبرة الكافية لتنفيذ المهمة الموكلة له، أم إن هذا ليس مهماً!
هل يتقن لغات أجنبية، وقادر على استخدام الحاسوب، والتعامل مع الذكاء الصنعي، وهل هو مثلاً خطيب مفوّه قادر على إقناع الجمهور، ويمتلك القدرة على فن التواصل الفعّال والإيجابي، وقادر على التفاوض في حال اقتضت المصلحة الوطنية ذلك؟ ونستطيع أن نضع الكثير من المعايير والمواصفات في محاولة لإيجاد تفسير لهذا المصطلح.
مصطلح «الآدمي» و«الأوادم» مصطلح مشرقي يستخدم في سورية، ولبنان، وفلسطين، وإلى حدٍ ما في الخليج، ويعكس مناقبية أخلاقية يفتقدها المجتمع، وخاصة في الحياة السياسية، على الرغم من أننا نطلق هذه الكلمة عادة على أي شخص لا نعرفه بشكل جيد، وحينما نلتقي أي شخص في مكان عام، أو حينما يتقن أحد ما حرفة وتكون سمعته باباً للثقة به، لكن هذا المصطلح لا يصلح للاستخدام في العمل السياسي والحكومي والمسؤوليات الكبرى.
صفة الأوادم التي تُطلق على السياسيين ليست مؤاتية إذ إن دخولهم وخروجهم لا يترك كبير الأثر في العادة، وقد لا يستطيعون إجراء تغييرات جذرية كبيرة، ووجودهم كغيابهم، وإرثهم محصور غالباً بأشخاصهم حسب رأي أحد اللبنانيين.
لكن هذه المسألة إشكالية حقاً، فقد يفهم البعض من كلامي أنني أدعو لصفات غير أخلاقية في السياسي كي يكون قادراً على العمل، وأن من يتمتعون بالمناقبية الأخلاقية لا يصلحون للعمل السياسي، والحقيقة التي أريد تثبيتها في أذهان القراء أنه لا هذا ولا ذاك، ودعوني أوضح النقاط التالية كي يكون الأمر واضحاً:
• مصطلح «آدمي» جاء من سيدنا آدم وسمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، والـ«لا آدمي» هو السلوك الحيواني الذي لا يليق بالإنسان.
• الآدمي وفقاً للنظرة العامة هو موظف دؤوب، مواظب، مخلص لعمله ومحددات وظيفته، لا يقبض الرشوة، لا يسرق، ولا يتخطى قنوات أخذ القرار، ولا يتدخل في وظائف من هو أعلى منه شأناً أو تراتبية.
• الآدمي لا يحب فتح المعارك مع أحد، ويريد سلته من دون عنب، لا يحب الجدل والنقاش حتى لو كان في ذلك مصلحة عامة، ويؤمن بنظرية «اربط الحمار حيث يريد صاحبه»!
• الآدمي شخص مطيع، منفذ جيد للتعليمات، ولا يناقش أبداً، وصوته منخفض، مهذب، ملتزم.
• الآدمي لا يحب البطولات، والمخاطرة، ولا الصدام مع أحد.
* مع التطور الذي حدث في العالم، بما في ذلك بلادنا حل مصطلح التكنوقراط محل «الآدمي»، أي الموظف الفني، الملتزم باختصاصه، والذي لا يتدخل في قضايا الفكر والسياسة والثقافة.
أين تكمن المشكلة هنا؟ هذا سؤال منطقي قد يُطرح من كثيرين ممن سيقرؤون هذا المقال، ليقولوا: هل من الخطأ أن يمتلك الشخص هذه المواصفات؟
جوابي: أبداً لا أقصد ذلك، لكني أنتقد المصطلح الدارج، الذي لا يعطيك أي لون، أو طعم، أو رائحة، هذا من جانب، ومن جانب آخر نحن بحاجة لفهم مجموعة من الأمور:
• الأخلاق والمناقبية مطلوبة في العمل السياسي بالطبع، ولكن الأخلاق هي ما يجب أن يكون، على حين السياسة هي فن الممكن!
• الأخلاق مطلب ورغبة، وأحياناً حالة مثالية، على حين السياسة تتعاطى مع الواقع كما هو بسلبياته وإيجابياته، وتعمل على تغييره، والمهم هنا كيف تكون فاعلاً وقادراً، وموازناً بين المناقبية الأخلاقية والواقع المعقد، وكيف نوازن بين مبادئنا التي هي قيم مطلوبة، وتحقيق المصالح العليا والوطنية، وهذه معادلة ليست سهلة أبداً.
ما أقصده من كل ما سبق أن عبارة «شكلو آدمي، أعطوه فرصة» يجب أن نتخلص منها، لتحل محلها عبارات أخرى، وتوصيفات مختلفة تماماً ترتبط بالعلم، والكفاءة، والخبرة، والقدرة على الإنجاز وتغيير الواقع، وكتابة قصة نجاح تُفيد المصلحة العامة، وتحقق تقدماً للأمام، وبالطبع فإنه إضافة لكل هذه المواصفات فإن السيرة الذاتية المناقبية مهمة كذلك، إذ إننا في هذا الزمن المادي جداً نحتاج لشخصيات تتمتع بالقيم والمبادئ، لكن في الوقت نفسه القادرة على إدارة الشأن العام والسياسي بكفاءة واقتدار ليصبح المصطلح القادم «كفؤاً- وآدمياً»، وقوياً ومقتدراً، وقادراً على الابتكار والتطوير.
قبل أيام فوجئ كثيرون بتسمية وزير الدفاع الروسي الجديد أندريه بيلاوسوف الذي يتمتع بكفاءة عالية، وأتى من خارج الوسط العسكري الروسي لإدخال أفكار جديدة للقطاع العسكري، ولكنه يتمتع بمناقبية عالية، وبرز ذلك حينما قال أمام مجلس الدوما الروسي عبارة مهمة للغاية يتبناها كمبدأ حازم في العمل: «الخطأ وارد، لكن الكذب ممنوع»، أليس هذا مزجاً جميلاً بين الكفاءة العالية، والمناقبية والأوادمية التي تحدثت عنها.
سؤالي: هل هذا صعب؟ أتمنى أن نكون على الطريق الصحيح، وأعتقد أن عيون الناس شاخصة نحو ذلك، في زمن أصبحت أجهزة كشف الكذب بين يدي كل مواطن، ولنعترف بوضوح شديد أن أجواء التفاؤل التي سادت خلال الفترة الماضية، وهي أجواء حقيقية، وصادقة تحتاج للأفعال وليس الأقوال وفقاً لما يؤكد الصينيون عليه دائماً: «الأفعال هي الثمرة، والأقوال هي الشجرة»، وبانتظار الثمار سيبقى تفاؤلنا حذراً لأن الإحباط بعد التفاؤل هو مسألة خطرة، ولا مجال فيها للتبرير، فزمن التبرير مضى، ومواطنونا ينتظرون بعد صبر فاق الوصف والتوقعات، ويستحقون منا الإخلاص والحوار معهم من أجل أن نكون شركاء في إنتاج الحلول.
كاتب سوري