السيرورة والعدوان
| إسماعيل مروة
تتعدد المنابر وتتناسخ، وتصبح أكثر من الناس وآرائهم عدداً، وتختلط الآراء بين العقدية الدينية والعلمانية، وتعجب أشد العجب عندما تجد علمانياً يستغني عن الجدلية الماركسية ليتحدث في القدرية الدينية والحتمية التي لا يعارضها أحد، وهذا يأخذ من ابن خلدون وعمر الدولة من الطفولة إلى الشيخوخة، وآخر يستعير أشياء وعبارات من ميكيافيللي، وآخر تروقه عبارة من أي شخص كان، ويبني حولها رأيه وآراء، وكل هذه الكتلة من الآراء تصب في خانة الجدلية والحتمية التاريخية، وكلها تنتظر زوال شيء ما، وثبات أمر ما..
حتى الذين يعملون في التنجيم يتحدثون عن: أمامك رزق، أمامك طريق، هناك مشكلات، ستنفرج عليك، هناك ارتباط، هناك خلاف، وبما أن الحديث مع التنجيم والتوقعات أكثر سلاسة، وأسهل نتيجة، فإنني أخصه بالتفصيل لأنتقل لمنجمي السياسة والأحداث.
من منا ليس أمامه طريق يمشي فيه؟ من منا يغدو ويعود ولا يوجد أمامه رزق؟ من منا لا يرتبط بشكل من الأشكال؟ من منا لا يشعر بالألم؟ من منا لا تمر به ساعات فرج وحلول؟
ولو سألت واحدهم إن لم يحدث ما قاله أو ما يقاربه: ما الأمر؟ يأتيك الجواب بغضب، ليس كل المواليد سواء، وربما ربط ذلك بالشمس والفجر والطالع.. ويتابع إن لم يحدث اليوم فسيحدث لاحقاً، وعندما يتضايق يقول: أنا أتوقع والعلم عند الله، ولكل مجتهد نصيب..!
إذاً نحن أمام كلام عام يستهلكنا ونستهلكه، ويضعنا في حالة من التواكل والكسل، فهذا ما قاله فلان، وهو صائب التوقع، وهذا قالته فلانة وما من شيء توقعته ولم يحدث وهكذا.
وفي التحليل والسياسة نقف أمام من يتوقع انهيار دول وإمبراطوريات، وحين يحدث العكس يختفي، وفي الحرب على سورية رأينا صنوفاً من هؤلاء، ومرة مازحت واحداً منهم قائلاً: كل ما توقعته لم يحدث، وكل ما حللته ذهب أدراج الرياح! امتعض قليلاً لأنه لم يتوقع المواجهة بهذه المباشرة، ثم قال لي: أنت على حق، وأنا على حق، المشكلة أن سيرورة الأحداث في بلداننا العربية لا يعلمها إلا الله، فنحن العرب لا نخضع لقوانين السياسة والتحليل، لابد أن يحدث ما توقعته، لكن عندما تستقيم الأمور تكون بلداننا العربية خاضعة للمنطق!
لم يكن هذا وغيره في موقع الجبرية ليقول ما قال، ولكنه قال وحدد الزمان والمكان، ولم يحدث شيء، ولم يتوقف هذا الرجل عن الحديث والتوقع والتحليل، ومن المؤكد أنه لم يحدث شيء، ولن يحدث بناء على هذه المعطيات، ولذلك فإن الحتمية التاريخية والجدلية والقدرية هي وحدها التي تحكم في مجتمعاتنا العربية، فالإنسان يموت عندما تنتهي حياته، ويأكل عندما يجد طعاماً، ويتوقف عن التناسل عندما يصل إلى سن لا يتمكن فيها من الإنجاب، ويسرق لأن الله كتب عليه أن يسرق! ويظلم لأن الله كتب عليه! وتستمر الاحتمالات وكلها قدرية.
حتى في تفسيرنا للظواهر نلجأ إلى القدرية (اشتدي أزمة تنفرجي)، (إن مع العسر يسراً)، (ما بعد الضيق إلا الفرج)، (لابد لليل أن ينجلي)، (لا يدوم الأمر)، (دوام الحال من المحال).
وفي الجدلية قد يقول قائل: إن الظلم والعدوان الذي يمارسه الأعداء هو أمر خير فالله أراد لهم أن يظلموا ويبطشوا وأن يتجاوزوا كل شيء، ليصل إلى منتهى الظلم، وهذا مؤشر للزوال، لكل ظالم نهاية!! نقولها والمحتل والمعتدي يضحك ملء فمه منا ومن قولنا!
في كثير من الأحيان نستشهد بنصوص دينية عن أمم غابرة، وبحوادث علمانية حياتية عن مراحل انتهت، وكأنها مؤشرات للنهايات المؤملة، وننسى أن ما نتحدث عنه استغرق عقوداً أو قروناً، وربما آلاف الأعوام..
واليوم نتحدث عن بطولات أهلنا في الجلاء من المستعمرين التركي والفرنسي، ونحن لا ندرك كم دفعوا من أثمان باهظة! ونقول: أرأيتم؟ لقد زالوا؟ لكل ظالم ومحتل نهاية! وماذا عما حدث خلال احتلال أربعمئة عام وثلاثة عقود بين تركي وفرنسي؟ هل تحتاج سيرورة التاريخ أكثر من خمسة قرون؟ ألم أقل لكم (لكل ظالم نهاية)، و(لكل أجل كتاب؟).
كم من الآجال داستها سيرورة التاريخ؟
وفوق هذا فإن السيرورة كما أرادها الأقوياء تقلب المجتمعات، وتحوّل الحياة من عصر إلى عصر، ونحن ننتظر السيرورة!.