مقاتل بلا رجلين
| حسن م. يوسف
«صورة واحدة تعادل عشرة آلاف كلمة»، هذه المقولة التي توصل إليها الصينيون القدماء قبل آلاف السنين تُؤكد صحتها وتزداد قوتها في كل يوم. والحق أنني منذ ثلاثة أيام تحت سيطرة صورتين من غزة، لا أكف عن رؤيتهما حتى عندما أغمض عيني؛ الصورة الأولى لرجل أسمر، في حدود الخامسة والثلاثين، شديد النحول، أشعث اللحية، مغبر الهيئة، يرتدي قميصاً أزرق نصف كم، وبنطلوناً قصيراً من الجينز يكشف عن رجليه المقطوعتين، لكنه يقف فوق ركبتيه ويطلق النار من بندقية كلاشنكوف.
أما الصورة الثانية فهي لولد حنطي البشرة في الثامنة من العمر، يلف الكوفية الفلسطينية حول عنقه، ويرتدي قميصاً نصف كم، وبنطلوناً قصيراً. كل شيء حول ذلك الولد مدمر تماماً. لكنه يجلس وسط الأنقاض فارداً كتبه ودفاتره وأقلامه فوق قطعة من جدار مهدم، وهو يقوم بحل فروضه المدرسية باستغراق كما لو أنه في كنف أمه وأبيه وسط بيت تتوافر فيه كل وسائل الراحة.
تفيد الإحصاءات الدقيقة التي يجريها الإعلام الحكومي في غزة أن عدد شهداء غزة من الأطفال بلغ 15517 منذ بدء الحرب قبل ثمانية أشهر حتى يوم أمس. مما حدا بالأمم المتحدة لأن تدرج الكيان السرطان رسمياً وبصورة نهائية في «القائمة السوداء» مع الدول المارقة التي «تقتل الأطفال في النزاعات والحروب». وهذه القائمة ترفق بالتقرير السنوي الذي يقدمه الأمين العام للمنظمة الدولية.
ومن أطرف ما تناقلته وسائل الإعلام خلال الأيام الماضية التصريح الذي أدلى به أفيغدور ليبرمان زعيم حزب «(إسرائيل) بيتنا» إذ رد على النتن ياهو الذي يكرر باستمرار أنه لا يقبل بأقل من «النصر الكامل»: «بعد ثمانية أشهر من الحرب، حصلنا على العار الكامل بدلاً من النصر الكامل».
واتهم ليبرمان حكومة نتنياهو بقوله: «إن حكومة (إسرائيل) أضاعت منطقة الشمال، وهي مستمرة في الخنوع لحزب اللـه الذي يفعل كل ما يريده».
والحقيقة أن صحافة الكيان بدأت تنشر تصريحات وأقوال غير مسبوقة تعبر عن السخط المتزايد، فأحد الصحفيين أفاد أنهم «يعيشون في العصر الحجري»، وكتب آخر «قيادة الجبهة الداخلية تخفي كل شيء عن الجمهور بناء على أوامر الحكومة»، وكتب ثالث يقول: «حياتنا تساوي قشر الثوم لنتنياهو وعصابته».
ومن فضائل (طوفان الأقصى) هو أنه فضح كل شيء، فالغرب الذي صرعنا بالديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان اضطر أخيراً لأن يكشف عن قبضته الفولاذية التي طالما كان يخبئها داخل قفاز من حرير، وأحدث مثال واضح على ذلك الفضيحة التي فجرها (موقع انترسبت) حول ما جرى في جامعة كولومبيا العريقة.
فقد قامت المحامية ربيعة إغبارية بكتابة مقال من مئة صفحة أرادت من خلاله تأسيس مفهوم «النكبة» الفلسطينية كإطار قانوني، وقد خضع المقال لرقابة مشددة من قبل سبعة محررين! لكن مجلس إدارة الجامعة ضغط على أسرة تحرير المجلة كي لا ينشر المقال أو يُؤجل نشره، غير أن أسرة التحرير قررت بعد نقاشات داخلية موسعة أن تُنشر المقال على موقع المجلة، فما كان من مجلس إدارة الجامعة إلا أن قام بحجب الموقع بالكامل.
لقد كشفت غزة من هم الأبطال ومن هم الخونة، كما كشفت أن الأنظمة الحاكمة في الغرب تريد الحرية حقاً لكنها تريدها لها وحدها كي تستمر في نهب العالم تحت ستار من الشعارات الطنانة!