الانتخابات الرئاسية الأميركية ومحنة الديمقراطية
| د. قحطان السيوفي
تتابع عيون الناس باهتمام ودهشة، في معظم أنحاء العالم، على شاشات التلفزة إدانة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قضائياً وكأنَّ ما يجري شيء لا يصدَّق، الاهتمام الحقيقي ينصب على ما يسمى ديمقراطية أميركا، وانعكاساتها في العالم.
«الجميع تحت سقف القانون»، هذا ما قاله الرئيس الأميركي جو بايدن شامتاً، بعد أقل من 24 ساعة على صدور حكم هيئة المحلفين في نيويورك على منافسه دونالد ترامب في قضية دفع أموال لإسكات فنانة قبل انتخابات 2016، كان قد أقام علاقة معها في أثناء زواجه.
هذا الحكم، أفرح الديمقراطيون لأنَّهم يعتقدون أنه سيحرم ترامب من شريحة لا يستهان بها من الأميركيين الذين كانوا يميلون للتصويت له، ولكن قالوا إنهم لن يصوتوا لشخص محكوم عليه، هذا إشارة لاحتدام المعركة الانتخابية والصراع للوصول إلى البيت الأبيض.
في جو محموم بعيداً عن الديمقراطية، التي يبدو أنها تعيش محنة في أميركا، الحرب الإسرائيلية في غزة وترامب خصمان لدودان لبايدن في محاولته للفوز بالرئاسة الأميركية لدورة ثانية، ولكن بايدن يدعي هو وحزبه أنها معركة حول مستقبل الديمقراطية وللحفاظ على الدستور الأميركي وعلى أميركا كما يعرفها العالم.
بعد ثمانية أشهر على حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة التي يدعمها بايدن بشكل مطلق، واستشهاد أكثر من 37500 فلسطيني معظمهم أطفال ونساء، يطرح الرئيس الأميركي خريطة طريق في لحظة حاسمة، لأن الانتخابات أصبحت على الأبواب.
خمسة أشهر فقط تفصلنا عن المعركة التي يصفها الديمقراطيون بأنها ستحدد مصير أميركا، وقال عنها ترامب إنها أهم انتخابات في التاريخ الأميركي، وفي الـ27 من شهر حزيران الجاري سيتواجه آخر رئيسين أميركيين في مناظرة مفتوحة قبيل انتخابات يُتوقع لها أن تكون الأسخن في التاريخ الأميركي بين رجلين يغطي رأسيهما البياض، في دلالة واضحة على مشيب الإمبراطورية الأميركية.
الديمقراطية حسب تقرير منظمة «فريدوم هاوس»، في تراجع كبير على مدى 17 عاماً، والسبب انهيار نموذجها الغربي الأميركي «المثالي»، هذا النموذج سرَّع انتشار الفساد والاهتراء المجتمعي في بلدان أخرى، على حين حقق نقيضه، في الصين مثلاً، الازدهار الاقتصادي والأمن الاجتماعي، وأصبح نموذجاً منافساً.
المراقبون يتملكهم العجب لما وصلت إليه الديمقراطية في موطنها الأميركي من تنافس قبائلي، وتناسٍ وتجاهل وانحدار متعمد لقيم أخلاقية أساسية.
هذا الانحدار يردُّه كثيرون إلى خلل بل محنة في الديمقراطية، وكأن مقاربة أفلاطون عن الديمقراطية قد تحققت في الولايات المتحدة لكونها تُمكِّن عامة الناس، كما يقول أفلاطون، من أن يختاروا حاكمهم؛ والعامة ينقصها الوعي فتختار من يوهمها بأنه الأقدر، ومَنْ يَعِدُها بالأماني، وعندما يصل لا يحقق شيئاً منها.
بمعنى آخر، أفلاطون، والبعض من معارضي نموذج الديمقراطية الأميركية المشار إليه، يرون أن هذه الديمقراطية توصل الشعبوي إلى السلطة؛ والشعبوي يعمل على تخويف الناس، والتشكيك في المؤسسات، والإيهام بأنه الشخص الأقدر على حمايتهم وضمان مستقبلهم والانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة في خريف 2024، وهنا مثال واضح فالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مرشح مدان بجرائم كثيرة.
هذا المرشح أمامه فرصة كبيرة للوصول إلى البيت الأبيض؛ لأن استطلاعات الرأي تشير إلى ازدياد في نسب المؤيدين له، وارتفاع عدد المتبرعين لحملته، ويبقى السؤال المهم: لماذا يؤيدون دونالد ترامب وهو مدان بهذه الجرائم؟ هل لأن نموذج الديمقراطية الأميركية في محنة؛ فهي، كما قال أفلاطون، تُسوِّي صوت الفيلسوف بصوت الجاهل، ولأن الفلاسفة قلة، فإن الناس تختار الأسوأ؟
المحللون والمراقبون يرون أن انتخابات الرئاسة الأميركية خريف 2024 جعلت ما تسمى الديمقراطية الأميركية تتعرض لمحنة؛ ولها أسبابها الظاهرة، ومنها عجز المؤسسات الديمقراطية عن مواكبة المستجدات؛ فالكونغرس، مثلاً، تتمثل فيه الولايات بالتساوي على الرغم من تفاوت عدد السكان، وهذا يعني أن من ينتخبه مئة ناخب في ولاية، يساوي في التأثير من انتخبه مليون بولاية أخرى.
هذا التفاوت في التمثيل الديمقراطي الأميركي من شأنه أن يضرب اللعبة الديمقراطية في الصميم، ومثلا قانون الانتخاب والتمويل؛ حيث المؤثر ليس الناخب؛ إنما الأغنياء واللوبيات، وبالتالي فإن من سيصل للبرلمان، سيعطي الأولوية للممول ولمصالحه من شركات أو مواقف سياسية من الناحية النظرية الديمقراطية، وفي جوهرها هي خدمة الشعب ورفع مستواه؛ لكن الناخب الأميركي اليوم يشعر بالمرارة بسبب تردي اقتصاده، وازدياد نسب التضخم، والنخبة تزداد ثراء على حسابه، لدرجة أن نسبة 1 في المئة تملك أكثر مما تملكه كل الطبقة الوسطى في أميركا، على حين طبقة الأجور المتدنية تملك نسبة 3 في المئة من الثروة، وهذا يوضح الظواهر الخطيرة لتفتيت المجتمع واختلال العدالة، وانتشار روح العداء.
في هذا الجو الخطير، يتمكن الشعبوي من إقناع الجماهير بأنه المُخَلِّص، ويدعي أنه يجسِّد، كما يجسِّد البرلمان في فكر الفيلسوف جان جاك روسو، إرادة الشعب المطلقة؛ وبتمثيله هذه الإرادة يتجاوز القضاء، ويشكك في نتائج الانتخابات، ويتخطى البرلمان وبقية المؤسسات.
هذا ما فعله ترامب عندما وصف القاضي خوان ميرشان بالمستبد، والمدعي العام بالفاسد، وشكك في نزاهة القضاء وأجهزة الدولة.
أصبحت المؤسسات الديمقراطية في خطاب المرشح لرئاسة أميركا دونالد ترامب غير محصنة بل أيضاً فاسدة، ومع غياب الثقة في القضاء في هذا الجو من التشكيك، وفإن ما يجري على الساحة الأميركية خطير؛ وأصبح من الصعب على الناس القدرة على المقارنة بين ترامب الماضي وترامب الحاضر؛ ففي خطاب الرئاسة عام 2017، وصَّف ترامب أميركا ببلد مصانعه مهجورة مثل المقابر، الجريمة منتشرة في شوارعه، وبأن العصابات والمخدرات رائجة، ووعد الناخبين بأنه سيبعث أميركا من الموت، رافعاً شعار: «لنجعل أميركا عظيمة ثانية».
لم تصبح أميركا عظيمة في عهده، ومع ذلك يكرر خطابه اليوم، ويُخوِّفُ الناخبين من أن حدودهم مشرعة أمام مهاجرين قتلة، وبشر من أراذل العالم، وأن من يحكمهم وصل لأرذل العمر، وفي أميركا تسود القبائلية: إما معنا أو ضدنا.
الرئيس بايدن وحملته الانتخابية يخشون توسع الحرب الإسرائيلية في غزة لتشمل المنطقة، ويريدون التفرغ لمواجهة ترامب وداعميه الذين أعلنوها حرباً مفتوحة بعد صدور الحكم، وبالمقابل ترامب أطلق على نفسه اسم «سجين سياسي»، وقال: «إن الحكم الحقيقي سيصدر في الخامس من تشرين الثاني من الشعب»، وهو يعني نتيجة الانتخابات.
وفي المحصلة، فإن انتخابات 2024 ساخنة جداً، وهذا الاضطراب الذي تعيشه النخبة السياسية في الحزبين يعكس حالة الاضطراب السياسي الذي تعيشه الولايات المتحدة التي لطالما استخدمت الديمقراطية شماعة لتعلق عليها أسباب انتقادها للدول الأخرى.
على حين تتجلى أزمة الديمقراطية ومحنتها في الحزبين المحتكرين للسلطة اللذين أفلست خياراتهما، فعادا يكرران الوجوه من دون طرح شخصيات تلبي طموح الشارع الأميركي، وهذا يؤكد أن الانتخابات الرئاسية الأميركية أظهرت أن الديمقراطية الأميركية في محنة.
وزير وسفير سوري سابق