هجرة العقول السورية.. روحة بلا رجعة!! … متى تعيدُ سورية لمّ شمل أبنائها؟
| بيان شواك
الآن وضعت جواز سفري داخل حقيبتي يا وطني، وعدتُ إلى السيارة كما يعود القائد المنكسر من ساحة الحرب، لا أملك إلا دمعة لا أستطيع إرسالها، وزفرة لا أستطيع تصعيدها.. يعتصر القلب ألماً وحرقة عند نقطة (جديدة يابوس) على الحدود السورية اللبنانية، عندما ترى نافذة «القادمين» إلى دمشق تكاد تكون شبه خالية، في مشهدٍ نقيض بالنسبة لشبابيك «المغادرين» وكأن الأرض هنا في ميلٍ شديد لكثرة المسافرين خارج حدود الوطن، لم أجد الازدحام المألوف، أين الأطفال الباعة؟ هل ذهبوا بسبب البرد القارس هنا؟! أخبروهم أن البردَ أشد في غيابهم..
ملف الهجرة إلى الخارج بالتأكيد ليس جديداً على المجتمع السوري، تقول الدراسات حول الاغتراب السوري أن «أنطونيوس البشعلاني» أول مغترب سوري هاجر إلى أميركا الشمالية سنة 1854، وأقيم له نصبٌ تذكاري في مدينة نيويورك يصفه بأنه ((المغترب الأول للعالم الجديد))، وكان السوريون أول من اكتشف الفرص الاقتصادية السانحة في الولايات المتحدة من التجار الذين قدموا لزيارة معرض فيلادلفيا الدولي لعرض البضائع والمنتجات السورية، وقد وصفت صحيفة (New-York Tribune) عام 1892 الجالية السورية المهاجرة في نيويورك بأنها «مستعمرة زاهية بمخازن السلع السورية، وباعة الجملة، والباعة الجوالين، والمقاهي، والمطاعم، والجمعيات»، كما أسست الجالية السورية صحيفة تصدر باللغة العربية بعنوان «كوكب أميركا»، ولكن بعدها هبطت الهجرة هبوطاً حاداً نتيجة أوضاع الحرب العالمية الأولى، وتحديد سقف الهجرة السنوية بسبب اشتداد أزمة الركود الاقتصادي والبطالة من جهة أخرى. أما تاريخنا المعاصر، وتحديداً خلال خمس سنين من الحرب في سورية، سُجلت أرقام مخيفة لنسبة المهاجرين إلى كل أنحاء العالم، وكان لعام 2015 الحصة الأكبر بتحطيم أرقام قياسية لأعداد المهاجرين السوريين. ففي كل يومٍ تطلع فيه الشمس، مئات السوريين يحزمون حقائبهم «المؤقتة» التي سترافقهم فقط إلى شطآن الموت الرحيم، بعد أن ضاقت الأرض عليهم بما رحبت وسوى باب الهجرة لم يجدوا!
ولا تكاد تخلو مرة أفتح فيها الاختراع الأزرق «فيسبوك» لتصفح «آخر الأخبار» من دون ورود خبر سفر بعض الأصدقاء إلى دول أوروبا وبعضهم إلى دول أبعد بكثير، حتى أذكر أيام طفولتي عندما سافرت إلى أستراليا وأميركا عبر مجسم الكرة الأرضية احتجت فتلها 180 درجة لكي أصل! تُرى ما الحال الاجتماعي والنفسي والاقتصادي التي وصل إليه الشباب وأصحابُ الكفاءات العالية حتى يتقبلوا فكرة التضحية بآدميتهم والمقامرة بأرواحهم، وتصفير حسابهم في الوطن والبدء من الصفر خارجاً؟ لماذا باتَ المواطنون أكثر ثقة بخطة «المهربين» لتأمين حياةٍ أفضل بدلاً من وعود حكوماتهم؟!
«بوستات» السفر، المطارات الافتراضية للوداع والهبوط، على صغر تلك المساحة التي يُتداول فيها مسألة الهجرة بين مؤيدٍ للبقاء ومعارضٍ له، إلا أن واقع الحال يحمل دلالات عميقة ومؤسفة تعكس الحقيقة المُرة التي صارت إليها بلادنا والتي أصبحت طاردة بشكل كبير يؤسف له. فالكثير من العقول المبدعة والخبيرة في مجالات تخصصاتها بدأ موسم هجرة قاسياً وحاداً خارج الحدود، وتشهد على ذلك الإحصاءات المخيفة لهجرة الكوادر العلمية والطبية والأكاديمية التي تتزايد يوماً تلو الآخر، وهذا بلا شك يشكل حالة صدع في البلاد بتفريغها من كوادرها المؤهلة أكاديمياً والخبيرة مهنياً، فما تسجله فروع الهجرة والجوازات من تزايد طلبات جوازات السفر أمرٌ يثير الحسرة ويفتح الباب واسعاً للتساؤلات. فقد خرّجت المؤسسات التعليمية في سورية الكثير من النوابغ بمختلف التخصصات، وظلت تُخرّج المعاهد الفنية والحرفية عقولاً فذة وأيادي على قدر كبير من المهنية والخبرة، لكن بعضها وبكل أسف آثر الهجرة خارج البلاد، فالتباين في الأجور كان العامل الأبرز، كما لعبت صورة «النجاح الاجتماعي» عاملاً مهماً في التحفيز على الهجرة، وكلها مظاهر تغذيها وسائل الإعلام المرئية ووسائل التواصل الاجتماعي، فالثورة الإعلامية جعلت الناس سواسية باقتناء الهوائيات والهواتف المحمولة التي مكنتهم من العيش في عالم افتراضي سحري يزرع فيهم الرغبة بالهجرة، فالكثير منهم فضل الهجرة لتطوير الذات واكتساب الخبرات، وإيجاد التقدير والاهتمام ما يمكنهم من الإبداع أكثر فأكثر، وبهذا تكون الدولة قد خسرت المليارات لنفقات التعليم، وستضطر لاحقاً لاستقدام معادليهم من دول أخرى وبهذا تكون الخسارة مضاعفة، لذا يجب تعزيز أسباب بقاء العقول وأصحاب الكفاءات مهما كلّف الثمن بدلاً من تركهم يهاجرون مرغمين، فحرماننا الاستفادة من خبرات ومؤهلات كفاءاتنا لتؤثر سلباً في تطور الاقتصاد القومي والتركيب الهيكلي للسكان والقوى البشرية.
علينا إدراك الخطر المحدق بنا، فهجرة العقول وإفراغ المنطقة من طاقاتها وشبابها تهدف حتماً لإضعاف البلاد وإنهاكها، هذا ما يفسر حالة اعتبار المواطن السوري هدفاً ثميناً لسماسرة الهجرة والدول المستقبلة. علينا إدراك العواقب الوخيمة للهجرة، وبدل فرض عوائق تمنع المواطنين من السفر الأجدر تعزيز مقومات وأسباب بقاء المواطن السوري داخل وطنه بالتسريع بالحل السياسي للأزمة السورية، والذهاب للمستقبل بدل انتظاره، ورفع أجور العاملين أمام هذا التضخم المريع والمتسارع جنونياً، والغلاء الفاحش للإيجار،- ولن أتحدث عن حقّ امتلاك المواطن لمنزل يؤويه بالنسبة للذين فقدوا منازلهم بسبب الحرب أو المقبلين على الزواج، لأن ذلك ضربٌ من الخيال!- كذلك يجب تمويل المؤسسات والشركات الوطنية واستثمار عقولنا المحلية في الداخل للعمل ضمن مؤسساتنا، ودفع الغالي والنفيس لجلب علمائنا وخبراتنا من الغرب وتوفير كل سبل العيش الكريم لهم، والعمل بخطط تنموية فاعلة ومستدامة قادرة على خلق ملايين فرص العمل سنوياً، والابتعاد عن فكرة «يا مرحبا باللي جاية من برا» في أولوية الفرص والتوظيف والأجور العالية وتسهيلات الدراسة، فالأفضل خلق منطق جديد عملي بعيداً عن التنظير، يؤكد أننا بلد 7000 سنة حضارة، وكنا أسياد العالم ويمكننا أن نكون كذلك مرة أخرى، لا أن نزرع بشبابنا منطق الأمر الواقع الذي يدفع بالإيمان المطلق بالغرب، وكذلك تطوير خدمات المجتمع من صحة وتعليم واقتصاد التي يمكنها خلق رؤى جديدة وكسر منطق الحياة في الغرب أنها أجمل وأروع وأكثر انفتاحاً وتقدماً..
وإذا أغمضنا أعيننا عن كل هذه الحقائق فستصبح القارة العجوز «ست الصبايا» بفضل عقول وطاقات شبابنا. علينا مواجهة الأمر بجدية وبجرأة أكبر بعيداً عن الشعارات، فعقول الوطن وشبابه هم الركيزة الأولى لأي نهضة حضارية، وبهم فقط تنهض الأمم بغض النظر عن إمكاناتها المادية الأخرى. إننا بحق بحاجة إلى إعادة تقييم مواردنا البشرية، وإعطائها الأولوية في التنمية التي تشمل كل ما من شأنه أن يحافظ عليها ويعمل على تطويرها، لتنهض سورية نهضة حقيقية دائمة، وينفض شبابها وأبناؤها عن سوريتهم غبار التعب.